26 Feb 2013

شَرْحُ عِلَلِ التِّرْمِذِيِّ 1


 
شَرْحُ
 عِلَلِ التِّرْمِذِيِّ




للإمام العالم الحافظ النّقّاد
أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
736هـ  ـ 795هـ
رحمه الله تعالى



الجزء الأول




كتاب العلل

* فضل ابتناء جامع الترمذي على عمل العلماء بالحديث (1) *
قال أبو عيسى رحمه الله :
( جميع ما في هذا الكتاب من الحديث معمول به ،وقد أخذ به بعض أهل العلم ، ما خلا حديثين :
حديث ابن عباس : (( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سقم )) .
وحديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : (( إذا شرب الخمر فاجلدوه ، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه )) .
وقد بينا علة الحديثين جميعاً في هذا الكتاب ) .
كأن مراد الترمذي رحمه الله تعالى أحاديث الأحكام ، وقد سبق الكلام على هذين الحديثين اللذين أشار إليهما ههنا في موضعهما من الكتاب ، وذكرنا مسالك العلماء فيهما من النسخ وغيره ، وذكرنا أيضاً عن بعضهم بكل واحد منهما .
وقوله : (( قد بينا علة الحديثين جميعاً في الكتاب )) ، فإنما بين ما قد يستدل به للنسخ ، لا أنه بين ضعف إسنادهما .
وقد روى الترمذي في كتاب الحج حديث جابر في التلبية عن النساء ، ثم ذكر الإجماع أنه لا يلبي عن النساء ، فهذا ينبغي أن يكون حديثاً ثالثاً مما لا يؤخذ به عند الترمذي .

* فصل في سرد أحاديث اتفق العلماء على عدم العمل بها *

وقد وردت أحاديث أخر قد أدعى بعضهم أنه لم يعمل بها أيضاً . وقد ذكرنا علبها في هذا الكتاب ، فمنها ما خرجه الترمذي ، وأكثرها لم يخرجه :
فمنها حديث : (( من غسل ميتاً فليغتسل ، ومن حمله فليتوضأ )) .
وقد قال الخطابي : (( لا أعلم أحداً من العلماء قال بوجوب ذلك )) . ولكن القائل باستجابة يحمله على الندب ، وذلك عمل به .
ومنها حديث : (( أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم توضأ ثلاثاً وقال : (( من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم )) . وقد ذكر مسلم الإجماع على خلافه ,
ومنها حديث : التيمم إلى المناكب والآباط .
ومنها حديث : التيمم إلى نصف الذراعين .
ومنها حديث : الأكل إلى الصيام بعد الفجر .
قال الجوزجاني : (( هو حديث قد أعيى العلماء معرفته )) .
ومنها حديث أنس : في أكل البرد للصائم .
ومنها حديث ابن أم مكتوم وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يرخص له في ترك الجماعة )) مع ذكره من ضرره وعدم قائد ، والسيول .
وقد ذكر بعضهم أنه لا يعلم أحداً أخذ بذلك .
ومنها : أحاديث (( النهي عن كري الأرض )) ، وهي أحاديث صحيحة ثابتة .
ومنها : أحاديث (( المسح على الخفين )) ذكره الطحاوي وغيره .
ومنها حديث أن (( في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه )) .
ومنها : حديث توريث المولى من أسفل , وقد ذكرنا الكلام عليه .
ومنها : حديث الرضاع : (( أنه لا يحرم إلا عشر رضعات )) .
ومنها : حديث جمع الطلاق الثلاث .
ومنها : حديث أسماء بنت عميس في إحداد المتوفى عنها ثلاث أيام .
ومنها : حديث سلمة بن المحبق فيمن وقع على جارية امرأته .
ومنها : حديث الذي تزوج امرأة فوجدها حبلى ، فجعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لها المهر ، وقال : (( الولد عبد )) . لكن قال الخطابي : (( لا أعلم أحداً قال باسترقاق ولد الزنا ) .
ومنها أحاديث متعددة في الحج :
مثل حديث : النهي عن التمتع .
وحديث : أن المعتمر إذا مسح الركن حل .
وحديث : (( إن الوقوف بعرفة لا يفوت إلا بطلوع الشمس يوم النحر )) .
وحديث : (( إن التحلل الأول برمي الجمرة مشروط [أ-3] بطواف الإفاضة في بقية يوم النحر . وقد حكى عن عروة القول به .
وحديث : الاضطباع في السعي بين الصفا والمروة .

* فصل في أحاديث ادعي ترك العمل بها *

وليس كذلك
وقد ادعى بعضهم ترك العمل بأحاديث أخر ، وهو خطأ ظاهر ، ، كدعوى ابن قتيبة الإجماع على ترك العمل بأحاديث المسح على العمامة .
ودعوى بعضهم الإجماع على ترك العمل بأحاديث فسخ الحج إلى العمرة .
ودعوى بعضهم الإجماع على ترك العمل بحديث : (( إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع )) .
قال ابن المنذر : (( ما علمت أحداً قال بظاهره غير الشعبي )) .
وكحديث ابن عباس في دية المكاتب . قال الخطابي : (( لم يذهب إليه أحد سوى النخعي ، وقد روى في ذلك شئ عن علي )) .
وذكر الطحاوي الإجماع على ترك العمل بحديث : (( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان ))
وعلى ترك العمل بحديث (( تحريق متاع الغال )) إلا عن مكحول .
والطحاوي من أكثر الناس دعوى لترك العمل بأحاديث كثيرة .
وعامة هذه الأحاديث قد ذكرناها في مواضعها من هذا الكتاب مع بسط الكلام عليها ، فمن أراد الوقوف عليها فليتبعها من مظانها من الكتاب .
وقد ذكر للثوري ما روي عن عمر قال : (( من لم يدرك الصلاة بجمع مع الإمام فلا حج له )) . فقال الثوري : (( قد جاءت أحاديث لا يؤخذ بها )) .
وسنذكر هذا المعنى مستوفي عند الكلام على الحديث الغريب إن شاء الله تعالى .
* فصل في مصادر الترمذي بأقوال العلماء *
في الفقه وعلل الحديث
قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله :
( وما ذكرنا في هذا الكتاب من اختيار الفقهاء :
فما كان فيه من قول سفيان الثوري فأكثره ما حدثنا به محمد بن عثمان الكوفي ثنا عبيد الله بن موسى عن سفيان الثوري . ومنه ما حدثني أبو الفضل مكتوم بن العباس الترمذي ثنا محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان .
وما كان من قول مالك بن أنس ما حدثني به إسحاق بن موسى الأنصاري ثنا معن بن عيسى القزاز عن مالك بن أنس .
وما كان فيه من أبواب الصوم فأخبرنا به أبو مصعب المدني عن مالك بن أنس . وبعض كلام مالك ما أنا به موسى بن حزام أنا عبد الله ابن مسلمة القعنبي عن مالك بن أنس .
وما كان فيه من قول ابن المبارك فهو ما حدثنا به أحمد بن عبدة الآملي عن أصحاب ابن المبارك . ومنه ما روي عن أبي وهب محمد بن مزاحم عن ابن المبارك ومنه ما روي عن علي بن الحسن بن شقيق عن عبد الله ومنه ما روي عن عبدان عن سفيان عن عبد الملك عن ابن المبارك ، ومنه ما روي عن حبان بن موسى عن عبد الله بن المبارك .
وله رجال مسمون سوى من ذكرنا عن عبد الله بن المبارك .
وما كان فيه من قول الشافعي فأكثره ما أخبرني بن الحسن بن محمد الزعفراني عن الشافعي .
وما كان من الوضوء والصلاة فثنا به أبو الوليد المكي عن الشافعي ، ومنا ما ثنا به أبو إسماعيل الترمذي ثنا يوسف بن يحيى القرشي البويطي عن الشافعي ، وذكر منه أشياء عن الربيع عن الشافعي ، وقد أجاز لنا الربيع ذلك وكتب به إلينا .
وما كان فيه من قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فهو ما أنا به إسحاق بن منصور الكوسج عن أحمد وإسحاق ، إلا ما في أبواب الحج والديات والحدود فإني لم أسمعه من إسحاق بن منصور ، وأخبرني به محمد بن موسى الأصم عن إسحاق بن منصور عن أحمد وإسحاق . وبعض كلام إسحاق بن إبراهيم أنا به محمد بن أفلح عن إسحاق ، وقد بينا هذا على وجهه في الكتاب الذي فيه الموقوف
وما كان فيه من ذكر العلل في الأحاديث والرجال والتاريخ فهو ما استخرجته من كتاب (( التاريخ )) ، وأكثر ذلك ما ناظرت به محمد بن إسماعيل ، ومنه ما ناظرت به عبد الله بن عبد الرحمن وأبا زرعة وأكثر ذلك عن محمد ، وأقل شئ فيه عن عبد الله وأبي زرعة .
ولم أر أحداً بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحدٍ أعلم من محمد بن إسماعيل رحمه الله ) .
اعلم أن أبا عيسى رحمه الله ذكر في هذا الكتاب مذاهب كثير من فقهاء أهل الحديث المشهورين ، كسفيان وابن المبارك ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق ، وذكر فيه كثيراً من العلل والتواريخ والتراجم ولم يذكر أسانيد أكثر ذلك ، فذكر ههنا مجملة وإن كان لم يحصل بها الوقوف على حقيقة أسانيد ذلك ، حيث ذكر أن بعضه عن فلان وبعضه عن فلان ، ولم يبين ذلك البعض ولم يميزه .
وقد ذكر أنه بين ذلك على وجهه في كتابه الذي فيه الموقوف ، وكانه رحمه الله له كتاب مصنف أكبر من هذا فيه الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة مذكورة كلها بالأسانيد ، وهذا الكتاب وضعه للأحاديث المرفوعة ، وإنما يذكر فيه قليلاً من الموقوفات .
وأما التواريخ والعلل والأسماء ونحو ذلك فقد ذكر أن أكثر كلامه فيه استخرجه من كتاب تاريخ البخاري ، وهو كتاب جليل لم يسبق مثله رحمه الله ورضي الله عنه ، وهو جامع لذلك كله ،
ثم لما وقف عليه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان رحمهما الله صنفا على منواله كتابين :
أحدهما : كتاب (( الجرح والتعديل )) وفيه ذكر الأسماء فقط ، وزاد على ما ذكره البخاري أشياء من الجرح والتعديل ، وفي كتابهما من ذلك شئ كثير لم يذكره البخاري .
والثاني : كتاب (( العلل )) أفردا فيه الكلام في العلل .
وقد ذكر الترمذي رحمه الله أنه لم ير بخراسان ولا بالعراق في معنى هذه العلوم كبير أحد أعلم بها من البخاري ، مع أنه رأى أبا زرعة وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وذاكرهما ، ولكن أكثر علمه في ذلك مستفاد من البخاري ، وكلامه كالصريح في تفضيل البخاري في هذا العلم على أبي زرعة والدارمي وغيرهما .
وقد صنف في هذا العلم كتب كثيرة غير مرتبة كترتيب كتاب البخاري وأبي حاتم وأبي زرعة ، منها ما هو منقول عن يحيى بن سعيد القطان ، ومنها عن علي بن المديني وابن معين ، ومنها عن أحمد ابن حنبل رحمه الله . وقد رتب أبو بكر الخلال العلل المنقولة عن أحمد على أبواب الفقه وأفردها ، فجاءت عدة مجلدات .
وقد ذكرنا فيما تقدم في كتاب العلم شرف علم العلل وعزته ، وأن أهله المتحقيقين به أفراد يسيرة من بين الحفاظ وأهل الحديث .
وقد قال أبو عبد الله بن منده الحافظ : (( إنما خص الله بمعرفة هذه الأخبار نفراً يسيراً من كثير ممن يدعي علم الحديث ، فأما سائر الناس ممن يدعي كثرة كتابة الحديث ، أو متفقه في علم الشافعي وأبي حنيفة ، أو متبع لكلام الحارث المحاسبي والجنيد وذي النون وأهل الخواطر فليس لهم أن يتكلموا في شئ من علم الحديث إلا من أخذه عن أهله وأهل المعرفة به فحينئذ يتكلم بمعرفته )) انتهى .
* سبب بيان الترمذي مذاهب الفقهاء وعلل الأحاديث *
قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله:
( وإنما حملنا على ما بينا في هذا الكتاب من قول الفقهاء وعلل الحديث ، لأنا سُئلنا عن ذلك فلم نفعله زماناً ، ثم فعلناه لما رجونا فيه من منفعة الناس ، لأنا وجدنا غير واحد من الأئمة تكلفوا من التصنيف ما لم يسبقوا إليه .
فمنهم : هشام بن حسان ، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، وسعيد بن عروبة ، ومالك بن أنس ، وحماد بن سلمة ، وعبد الله ابن المبارك ، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، ووكيع بن الجراح ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وغيرهم من أهل العلم والفضل ، صنفوا فجعل الله تبارك وتعالى في ذلك منفعة كثيرة فنرجو لهم بذلك الثواب الجزيل من عند الله تعالى لما نفع الله المسلمين به ، فهم القدوة فيما صنفوا ) .
* فصل هام في تدوين الحديث *
اعلم أن العلم المتلقى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أقواله وأفعاله كان الصحابة رضي الله عنهم في زمن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم يتداولونه بينهم حفظاً له ورواية ، ومنهم من كان يكتب كما تقدم في كتاب العلم عن عبد الله بن عمرو ابن العاصي رضي الله عنه .
ثم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان بعض الصحابة يرخص في كتابة العلم عنه ، وبعضهم لا يرخص في ذلك ، ودرج التابعون أيضاً على مثل هذا الاختلاف . وقد ذكرنا كراهة الحديث والرخصة فيه مستوفى في كتاب العلم من هذا الكتاب .
والذي كان يكتب في زمن الصحابة والتابعين لم يكن تصنيفاً مرتباً مبوباً ، إنما كان يكتب للحفظ والمراجعة فقط ، ثم إنه في عصر تابعي التابعين صنفت التصانيف ، وجمع طائفة من أهل العلم كلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وبعضهم جمع كلام الصحابة ، قال عبد الرزاق : (( أول من صنف الكتب ابن جريج ، وصنف الأوزاعي حين قدم على يحيى بن أبي كثير كتبه )) خرجه ابن عدي وغيره .
     وانقسم الذين صنفوا الكتب أقساماً :
منهم من صنف كلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو كلامه وكلام الصحابة على الأبواب ، كما فعل مالك وابن المبارك وحماد بن سلمة وابن أبي ليلى ووكيع وعبد الرزاق ومن سلك سبيلهم في ذلك . ومنهم من جمع الحديث على مسانيد الصحابة كما فعله أحمد وإسحاق وعبد بن حميد ، والدارمي ، ومن سلك مسلكهم في ذلك .
قال ابن أبي خيثمة : (( ثنا الزبير بن بكار أخبرني محمد بن الحسن عن مالك بن أنس قال : (( أول من دوّن العلم ابن شهاب )) ، يعني الزهري ، ومحمد بن الحسن كأنه ابن زبالة لا يعتمد عليه . وقال ابن خراش : (( يقال : إن أول من صنف الكتب سعيد بن أبي عروبة )) .
وقال يعقوب بن شيبة : (( يقولون : إن أول من صنف الكتب بالكوفة يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، وبالبصرة حماد بن سلمة )) .
وقال عبد الله بن أحمد : قلت لأبي : (( أول من صنف الكتب من هو ؟ قال : (( ابن جريج ، وابن أبي عروبة ، يعني ونحو هؤلاء )) . وقال ابن جريج : (( ما صنف أحد العلم تصنيفي )) قال : وسمعت أبي يقول : (( قدم ابن جريج على أبي جعفر ، يعني المنصور فقال له : (( إني قد جمعت حديث جدك عبد الله بن عباس ، وما جمعه أحد جمعي )) ، أو نحو ذا ، فلم يعطه شيئاً .
وقال أبو محمد الرامهرمزي : (( أول من صنف وبوب فيما أعلم الربيع بن صبيح بالبصرة ، ثم سعيد بن أبي عروبة بها ، وخالد بن جميل الذي يقال له العبد ، ومعمر باليمن ، وابن جريج بمكة ، ثم سفيان الثوري بالكوفة ، وحماد بن سلمة بالبصرة ، وصنف ابن عيينة بمكة ، والوليد بن مسلم بالشام ، وجرير بن عبد الحميد بالري ، وابن المبارك بمرو وخراسان ، وهشيم بواسط ، وصنف في هذا العصر بالكوفة ابن أبي زائدة ، وابن فضيل ، ووكيع ، ثم صنف عبد الرزاق باليمن ، وأبو قرة موسى بن طارق )) .
     * أول من صنف المسند *
قال ابن عدي : (( يقال : إن أول من صنف المسند بالكوفة يحيى الحِمَّاني ، وأول من صنف المسند بالبصر مسدد ، وأول من صنف المسند بمصر أسد السنة ، وأسد قبلهما وأقدم موتاً )) . وقال الحازمي : (( إسحاق ابن إدريس الأسواري يقال إنه أول من جمع المسند بالبصرة ، ويقال : أول من صنف المسند موسى بن قرة الزبيدي )) .
وقال الحاكم : (( أول من صنف المسند على تراجم الرجال في الإسلام عبيد الله بن موسى العبسي ، وأبو داود الطيالسي ، وبعدهما أحمد وإسحاق ، وأبو خيثمة والقواريري )) .
وذكر الحاكم في تاريخ نيسابور أن أبا جعفر ، عبد الله بن محمد المسندي شيخ البخاري  إنما قيل له المسندي لأنه أول من جمع مسند الصحابة عن التراجم ، بما وراء النهر .
والذي صنفوا :
منهم من أفراد الصحيح كالبخاري ومسلم ومن بعدهما ، كابن خزيمة وابن حبان ، ولكن كتابهما لا يبلغ مبلغ كتاب الشيخين .
ومنهم من لم يشترط الصحة ، وجمع الصحيح ، وما قاربه وما فيه بعض لين وضعف ، وأكثرهم لم يثبتوا ذلك ولم يتكلموا على التصحيح والتضعيف .
وأول من علمناه بين ذلك أبو عيسى الترمذي رحمه الله ، وقد بين في كلامه هذا أنه لم يسبق إلى ذلك ، واعتذر بأن هؤلاء الأئمة الذين سماهم صنفوا ما لم يسبقوا إليه ، فإذا زيد في التصنيف بيان العلل ونحوها كان فيه تأس بهم في تصنيف ما لم يسبق إليه .
وقد صنف ابن المديني ويعقوب بن شيبة مسانيد معللة . وأما الأبواب المعللة فلا نعلم أحداً سبق الترمذي إليها ، وزاد الترمذي أيضاً ذكر كلام الفقهاء ، وهذا كان قد سبق إليه مالك في الموطأ وسفيان في الجامع . وكان أحمد يكره ذلك وينكره رضي الله عنه ، حتى أنه أمر بتجريد أحاديث الموطأ وأثاره عما فيه من الرأي الذي يذكره مالك من عنده ، وكره أحمد أيضاً أن يكتب مع الحديث كلام يفسره ويشرحه .
وكان ينكر على من صنف في الفقه كأبي عبيد وأبي ثور وغيرهما ، ورخص في غريب الحديث الذي صنفه أبو عبيد أولاً ، ثم لما بسطه أبو عبيد وطوله كرهه أحمد ، وقال : (( هو يشغل عما هو أهم منه )) . ولكن عند بعد العهد بكلام السلف وطول المدة وانتشار كلام المتأخرين في معاني الحديث والفقه انتشاراً كثيراً بما يخالف كلام السلف الأول ، فتعين ضبط كلام السلف من الأئمة وجمعه وكتابته والرجوع إليه ، ليتميز بذلك ما هو مأثور عنهم بما أحدث بعدهم مما هو مخالف لهم ، وكان ابن مهدي يندم على أن لا يكون كتب عقب كل حديث من حديثه تفسيره .
وكذا الكلام في العلل والتواريخ قد دونه أئمة الحفاظ ، وقد هجر في هذا الزمان ودس حفظه وفهمه ، فلولا التصانيف المتقدمة فيه لما عرف هذا العلم اليوم بالكلية ، ففي التصنيف فيه ونقل الكلام الأئمة المتقدمين مصلحة عظيمة جداً .
وقد كان السلف الصالح مع سعة حفظهم وكثرة الحفظ في زمانهم يأمرون بالكتابة للحفظ ، فكيف بزماننا هذا الذي هجرت فيه علوم سلف الأمة وأئمتها ، ولم يبق منها إلا ما كان مدوناً في الكتب ، لتشاغل أهل الزمان بمدارسة الأراء المتأخرة وحفظها .
قال أبو قلابة : (( الكتابة أحب إلىّ من النسيان )) .
وقال ابن المبارك : (( لولا الكتابة لما حفظنا )) .
وقال الخلال : (( أخبرني الميموني أنه قال لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل : قد كره قوم كتاب الحديث بالتأويل ؟ قال : (( إذا يخطئون إذا تركوا كتاب الحديث )) ، وقال : حدثونا قوم من حفظهم وقوم من كتبهم ، فكان الذي حدثونا من كتبهم أتقن )) .
وقال إسحاق بن منصور : (( قلت لأحمد : من كره كتاب العلم ؟ قال : كرهه قوم ورخص فيه قوم . قلت : لو لم يكتب ذهب العلم . قال أحمد : ولولا كتابته أي شئ كنا نحن ؟! )) .

* فصل في الجرح والتعديل والتفتيش عن الأسانيد *
وأن الإسناد من الدين
قال أبو عيسى رحمه الله :
( وقد عاب بعض من لا يفهم على أصحاب الحديث الكلام في الرجال ، وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين قد تكلموا في الرجال :
منهم : الحسن البصري وطاوس ، قد تكلما في معبد الجهني ، وتكلم سعيد بن جبير في طلق بن حبيب ، وتكلم إبراهيم النخعي وعامر الشعبي في الحارث الأعور .
وهكذا روي عن أيوب السختياني ، وعبد الله بن عون ، وسليمان التيمي ، وشعبة بن الحجاج ، وسفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، والأوزاعي ، وعبد الله بن المبارك ، ويحي بن سعيد القطان ، ووكيع بن الجراح ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وغيرهم من أهل العلم أنهم تكلموا في الرجال وضعفوا فما حملهم على ذلك عندنا – والله أعلم – إلا النصيحة للمسلمين ، لا نظن أنهم أروادو الطعن على الناس أو الغيبة ، إنما أرادوا عندنا أن يبينوا ضعف هؤلاء لكي يعرفوا ، لأن بعضهم من الذين ضعفوا كتاب صاحب بدعة ، وبعضهم كان متهماً في الحديث ، وبعضهم كانوا أصحاب غفلة وكثرة خطأ ، فأراد هؤلاء الأئمة أن يبينوا أحوالهم شفقة على الدين وتبييناً ، لأن الشهادة في الدين أحق أن يثبت فيها من الشهادة في الحقوق والأموال ) .
مقصود الترمذي رحمه الله أن يبين أن الكلام في الجرح والتعديل جائز قد أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها ، لما فيه من تمييز ما يجب قبوله من السنن مما لا يجوز قبوله .
وقد ظن بعض من لا علم عنده أن ذلك من باب الغيبة ، وليس كذلك ، فإن ذكر عيب الرجل إذا كان فيه مصلحة ولو كانت خاصة كالقدح في شهادة شاهد الزور جائز بغير نزاع ، فما كان فيه مصلحة عامة للمسلمين أولى .
وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن بهز بن أسد قال : (( لو أن لرجل على رجل دراهم ثم جحده أخذها منه إلا بشاهدين عدلين ، فدين الله أحق أن يؤخذ فيه بالعدول )) .
وكذلك يجوز ذكر العيب إذا كان فيه مصلحة خاصة ، كمن يستشير في نكاح أو معاملة ، وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفاطمة بنت قيس : (( أما معاوية فصعلوك لا مال له ، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه )) . وكذلك استشار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليًا وأسامة في فراق أهله ، لما قال أهل الإفك ما قالوا .
ولهذا كان شعبة يقول : (( تعالوا حتى نغتاب في الله ساعة )) . يعني نذكر الجرح والتعديل .
وذكر ابن المبارك رجلاً فقال : (( يكذب )) ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن (( تغتاب ! )) ، قال : (( اسكت ، إذ لم تبين كيف يعرف الحق من الباطل )) .
وكذا روي عن ابن عُلية أنه قال في الجرح : (( إن هذا أمانة ليس بغيبة )) .
وقال أبو زرعة الدمشقي (( سمعت أبا مسهر يسأل عن الرجل يغلط ويهم ويصحف ؟ فقال : بين أمره . فقلت لأبي مسهر : أترى ذلك غيبة ؟ قال : لا )) .
وروى أحمد بن مروان المالكي ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : جاء أبو تراب النخشبي إلى أبي ، فجعل أبي يقول : (( فلان ضعيف وفلان ثقة )) ، قال أبو أيوب : (( يا شيخ لا تغتب العلماء )) قال : فالتفت أبي إليه قال : (( ويحك ! هذا نصيحة ، ليس هذا غيبة )) .
وقال محمد بن بندار السباك الجرجاني : قلت لأحمد بن حنبل : إنه ليشتد علي أن أقول : فلان ضعيف فلان كذاب ؟ قال أحمد : (( إذا سكتَّ أنت وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم )) .
وقال إسماعيل الخطبي : ثنا عبد الله بن أحمد قلت لأبي : (( ما يقول في أصحاب الحديث يأتون الشيخ لعله أن يكون مرجئاً أو شيعياً أو فيه شئ من خلاف السنة ، أيسعني أن اسكت عنه أم أحذر عنه ؟ فقال أبي : (( إن كان يدعو إلى بدعة وهو إمام فيها ويدعو إليها ، قال : نعم تحذر عنه )) .
وقد خرج ذلك كله أبو بكر الخطيب في كتابه الكفاية ، وغيره من أئمة الحفاظ ، وكلام السلف في هذا يطول ذكره جداً .
وذكر الخلال عن الحسن بن علي الاسكافي قال : سألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل عن معنى الغيبة ؟ قال : (( إذا لم ترد عيب الرجل )) ، قلت : (( فالرجل يقول : (( فلان لم يسمع وفلان يخطئ ؟ )) قال : (( لو ترك الناس هذا لم يعرف الصحيح من غيره )) .
وخرّج البيهقي من طريق الحسن بن الربيع قال : قال ابن المبارك : (( المعلى بن هلال هو ، إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب )) فقال له بعض الصوفية : (( يا أبا عبد الرحمن تغتاب ، قال : اسكت إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل ؟! ، أو نحو هذا .
وما ذكره الترمذي رحمه الله من تكلم الحسن في معبد فقد روى مرحوم بن عبد العزيز عن أبيه وعمه سمعا الحسن يقول : (( إياكم ومعبد الجهني فإنه ضال مضل )) . ورواه أيضاً حماد بن زيد عن أبي طلحة عن غيلان بن جرير سمعت الحسن يقول : (( لا تجالسوا معبداً ، فإنه ضال مضل )) ، وروى نعيم بن حماد عن ابن المبارك نا رباح بن زيد الصنعاني عن جعفر بن محمد بن عباد عن طاوس أنه قال لمعبد الجهني : (( أنت الذي تفتري على الله عزو جل ؟ فقال معبد : (( كذب عليّ )) .
وأما تكلم سعيد بن جبير في طلق : فمن طريق حماد بن زيد عن أيوب قال : رآني سعيد بن جبير مع طلق بن حبيب فقال : (( ألم أرك مع طلق ! لا تجالسه )) ، وكان طلق رجلاً صالحاً لكنه كان يرمي بالارجاء .
وأما تكلم الشعبي والنخعي في الحارث الأعور : فقد ذكره مسلم في مقدمة كتابه من طريق زائدة عن منصور والمغيرة عن إبراهيم (( أن الحارث اتهم )) . ومن طريق مغيرة عن الشعبي قال : (( حدثني الحارث الأعور وكان كذاباً)) .
قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله :
( أنا محمد بن إسماعيل نا محمد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثني أبي قال : سألت سفيان الثوري ، وشعبة ، ومالك بن أنس ، وسفيان بن عيينة ، عن الرجل يكون في تهمة أو ضعف أسكت أو أبين ؟ قالوا : بيّن ) .
هذا الأثر خرّجه البخاري في أول كتابه الضعفاء ، كما خرجه الترمذي ههنا عنه ، وخرجه مسلم في مقدمة كتابه عن عمرو بن علي الفلاس عن يحيى بن سعيد قال : (( سألت الثوري وشعبة ومالكا وابن عيينة عن الرجل لا يكون شيئاً في الحديث فيأتيني الرجل فيسألني عنه ؟ قالوا : أخبر عنه أنه ليس بثبت )) .
ورواه أبو بكر النجاد نا جعفر بن محمد الصائغ نا عفان بن يحيى ابن سعيد قال : سألت شعبة وسفيان ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ ؟ قالوا : (( بين أمره للناس )) . ورواه الإمام أحمد عن عفان أيضاً بنحوه .
وقال يعقوب بن شيبة ثنا موسى بن منصور حدثني أبو سلمة الخزاعي قال : سمعت حماد بن سلمة ومالك بن أنس وشريك بن عبد الله يقولون في الرجل يحدث : (( تخبر بأمره )) . يعنون ضعف من قوته ، وصدقه من كذبه . قال وقال شريك : (( كيف نعرف الضعيف من القوي إذا لم نخبر به )) .
قال الترمذي رحمه الله :
( حدثنا محمد بن رافع النيسابوري ثنا محمد بن يحيى قال : قيل لأبي بكر بن عياش : (( إن ناساً يجلسون ويجلس إليهم الناس ولا يستأهلون ؟ )) قال : فقال أبو بكر : (( كل من جلسَ جلسَ الناس إليه ، وصاحب السنة إذا مات أحيى الله ذكره ، والمبتدع لا يذكر ) .
قال ابن أبي الدنيا : نا أبو صالح المروزي سمعت رافع بن أشرس قال كان يقال : (( من عقوبة الكذاب أن لا يقبل صدقه . وأنا أقول : (( من عقوبة الفاسق المبتدع أن لا تذكر محاسنه )) .

*    *    *


* بدء التفتيش عن الأسانيد *
قال رحمه الله :
( حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق أنا النضر بن عبد الله الأصم أنا إسماعيل بن زكريا عن عاصم عن ابن سيرين قال : (( كان في الزمان الأول لا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد ، لكي يأخذوا حديث أهل السنة ، ويدعوا حديث أهل البدع ) .
هذا الأثر خرّجه مسلم في مقدمة كتابه عن محمد بن الصباح البزار عن إسماعيل بن زكريا به ولفظه : (( قال : لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم ، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم ، وينظر إلأى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم )) .
وخرّجه أبو بكر الخطيب من طريق أحمد بن سيار ثنا النضر ابن عبد الله المديني من مدينة الداخلة أبو عبد الله الأصم ثنا إسماعيل ابن زكريا فذكره . وخرّجه أيضاً من طريق محمد بن حميد الرازي عن جرير عن عاصم عن ابن سيرين بنحوه .
وابن سيرين رضي الله عنه هو أول من انتقد الرجال وميز الثقات من غيرهم ، وقد روي عنه من غير وجه أنه قال : (( إن هذا العلم دين فأنظروا عمن تأخذون دينكم )) وفي رواية عنه أنه قال : (( إن هذا الحديث دين فلينظر الرجل عمن يأخذ دينه )) .
قال يعقوب بن شيبة : قلت ليحيى بن معين : تعرف أحداً من التابعين كان ينتقي الرجال كما كان ابن سيرين ينتقيهم ؟ فقال برأسه ، أي : لا .
قال يعقوب (( وسمعت علي بن المديني يقول : (( كان ممن ينظر في الحديث ويفتش عن الإسناد لا نعلم أحداً أول منه ،محمد بن سيرين ، ثم كان أيوب ، وابن عون ، ثم كان شعبة ، ثم كان يحيى بن سعيد وعبد الرحمن . قلت لعلي : فمالك بن أنس ؟ فقال أخبرني سفيان بن عيينة قال : (( ما كان أشد انتقاء مالك الرجال )) .
وروى الإمام أحمد عن جابر بن نوح عن الأعمش عن إبراهيم قال : (( إنما سئل عن الإسناد أيام المختار )) .
وسبب هذا أنه كثر الكذب على عليّ في تلك الأيام ، كما روى شريك عن أبي إٍسحاق سمعت خزيمة بن نصر العبسي أيام المختار وهم يقولون ما يقولون من الكذب وكان من أصحاب علي قال : (( ما لهم قاتلهم الله ، أي عصابة شانوا وأي حديث أفسدوا ! )) .
وروى يونس عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر العبسي قال : (( قاتل الله المختار أي شيعة أفسد وأي حديث شان )) . خرجه الجوزجاني وقال : (( كان المختار يعطي الرجال الألف دينار والألفين على أن يروي له في تقوية أمره حديثاً )).
* مسألة في رواية المبتدع *   
وهذه المسألة قد اختلف العلماء فيها قديماً وحديثاً ، وهي الرواية عن أهل الأهواء والبدع فمنعت طائفة من الرواية عنهم كما ذكره ابن سيرين ، وحكي نحوه عن مالك وابن عيينة والحميدي ويونس بن أبي إسحاق وعلي بن حرب وغيرهم ، وروى أبو إسحاق الفزاري عن زائدة عن هشام عن الحسن قال : (( لا تسمعوا من أهل الأهواء )) خرجه ابن أبي حاتم .
ورخصت طائفة في الرواية عنهم إذا لم يتهموا بالكذب . منهم أو حنيفة والشافعي ويحيى بن سعيد وعلي بن المديني : (( لو تركت أهل البصرة للقدر وتركت أهل الكوفة للتشيع لخربت الكتب )) .
وفرقت طائفة أخرى بين الداعية وغيره ، فمنعوا الرواية عن الداعية في البدعة دون غيره ، منهم ابن المبارك وابن مهدي وأحمد ابن حنبل ويحيى بن معين ، وروى أيضاً عن مالك .
والمانعون من الرواية لهم مأخذان :
أحدهما : تكفير أهل الأهواء أو تفسقيهم ، وفيه خلاف مشهور .
والثاني : الإهانة لهم والهجران والعقوبة بترك الرواية عنه ، وإن لم نحكم بكفرهم أو فسقهم .
ولهم مأخذ ثالث : وهو أن الهوى والبدعة لا يؤمن معه الكذب ، ولا سيما إذا كانت الرواية مما تعضد هوى الرواي .
وروى أبو عبد الرحمن المقرئ عن ابن ليهعة أنه سمع رجلاً من أهل البدع رجع عن بدعته وجعل يقول : (( انظرا هذا الحديث عمن تأخذونه ، فإنا كنا إذا رأينا رأياً جعلناه حديثاً )) . ورواه المعافى عن ابن ليهعة عن أبي الأسود حدثني المنذر بن الجهم ، فذكره بمعناه .
وقال علي بن حرب : (( من قدر أن لا يكتب الحديث إلا عن صاحب سنة ، فإنهم يكذبون ، كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي )) .
وعلى هذا المأخذ فقد يستثني من اشتهر بالصدق والعلم ، كما قال أبو داود : (( ليس في أهل الأهواء أصح حديثاً من الخوارج . ثم ذكر عمران بن حطان وأبا حسان الأعرج )) .
وأما الرافضة فبالعكس ، قال يزيد بن هارون : (( لا يكتب عن الرافضة فإنهم يكذبون )) خرجه ابن أبي حاتم .
ومنهم من فرق بين من يغلو في هواه ومن لا يغلو ، كما ترك ابن خزيمة حديث عباد بن يعقوب لغلوه ، وسئل ابن الأخرم : لمَ ترك البخاري حديث ابن الطفيل ؟ قال : (( لأنه كان يفرط في التشيع )) . وقريب من هذا قول من فرق بين البدع المغلظة كالتجهم والرفض والخارجية والقدر ، والبدع المخففة ذات الشبه كالإرجاء .
قال أحمد في رواية أبي داود : (( احتملوا من المرجنة الحديث ، ويكتب عن القدري إذا لم يكن داعية )) . وقال المروزي : (( كان أبو عبد الله يحدث عن المرجئ إذا لم يكن داعياً . ولم نقف على نص في الجهمي أنه يروى عنه إذا لم يكن داعياً ، بل كلامه فيه عام أنه لا يروى عنه)) .
فيخرج من هذا أن البدع الغليظة يُردُ بها الرواية مطلقاً ، والمتوسطة كالقدر إنما يرد رواية الداعي إليها ، والخفيفة كالإرجاء هل يقبل معها الراوية مطلقاً ، أو يرد عن الداعية ، على روايتين .

* الإسناد في الدين *
قال رحمه الله :
( حدثنا محمد بن علي بن الحسن قال : سمعت عبدان يقول : قال عبد الله بن المبارك : (( الإسناد عندي من الدين ، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ، فإذا قيل له من حدثك ؟ بقي )) .
حدثنا محمد بن علي أنا حبان بن موسى قال ذكر لعبد الله حديث ، فقال : (( يحتاج لهذا أركان من آجر )) .
قال أبو عيسى : يعني أن ضعف إسناده ) .
أما قول عبد الله بن المبارك (( الإسناد من الدين )) فخرجه مسلم في مقدمة كتابه عن محمد بن عبدالله بن قهزاد المروزي عن عبدان عنه إلى قوله (( ما شاء )) ، وخرجه بتمامه ابن حبان في أول كتابه من طريق الحسين بن الفرج عن عبدان . وأما قوله الثاني ...
وذكر مسلم أيضاً : قال محمد بن عبد الله حدثني العباس ابن رزمة قال سمعت عبد الله يعني ابن المبارك يقول : (( بيننا وبن القوم القوائم )) يعني الإسناد .
قال وقال محمد : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني يقول قلت لعبد الله بن المبارك : يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء (( إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك ؟ فقال عبد الله : يا أبا إسحاق عمن هذا ؟ قلت له : هذا من حديث شهاب بن خراش . قال ثقة ، عمن ؟ قلت : عن الحجاج بن دينار ، قال : ثقة ، عمن ؟ قلت : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( يا أبا إسحاق ، إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ، ولكن ليس في الصدقة اختلاف )) .
وخرج ابن حبان وغيره من طريق الحسين بن الفرج عن عبد الصمد بن حبان سمعت الثوري يقول : (( الإسناد سلاح المؤمن ، إذا لم يكن معه سلاح فبأي شئ يقاتل ؟ )) .
وخرج أبو عمر بن عبد البر في أول التمهيد من طريق محمد بن خيرون ثنا محمد بن الحسين البغدادي قال سمعت أحمد بن حنبل يقول سمعت يحيى ابن سعيد يقول : (( الإسناد من الدين )) . قال يحيى وسمعت شعبة يقول : (( إنما تعلم صحة الحديث بصحة الإسناد )) . وفي هذا الإسناد نظر . وخرج أيضاً بإسناده عن الأوزاعي قال : (( ما ذهاب العلم إلاذهاب الإسناد )) .
وبإسناده عن ابن عون قال : (( كان الحسن يحدثنا بأحاديث لو كان يسندها كان أحب إلينا )) .
وخرج البيهقي من طريق علي بن حجر قال ابن المبارك : (( لولا الإسناد لذهب الدين )) ولقال امرؤ ما شاء أن يقول ، ولكن إذا قلت عمن ؟ بقي ! )) .
قال وسمعت ابن المبارك يقول : (( إن الله حفظ الأسانيد على أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) . ومن طريق الشافعي قاق قال سفيان بن عيينة : (( حدّث الزهري يوماً بحديث فقلت : هاته بلا إسناد ، فقال الزهري : أترقى السطح بلا سلّم )) .
وخرّج أبو بكر الخطيب من طريق مالك بن إسماعيل النهدي سمعت ابن المبارك يقول : (( طلب الإسناد المتصل من الدين )) . ومن طريق هلال بن العلاء عن أبيه سمع ابن عيينة وقال له أخوه : حدّثهم بغير إسناد ، فقال سفيان : (( انظروا إلى هذا يأمرني أن أصعد فوق البيت بغير درجة ! )) .
ومن طريق إبراهيم بن معدان قال قال ابن المبارك : (( مثل الذي يطلب دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلّم )) . من طريق ابن المديني قال أبو سعيد الحداد : (( الإسناد مثل الدرج ، مثل المراقي ، فإذا زلت رجلك عن المرقاة سقطت )) .
وروى الفضل بن موسى قال قال بقية : ذكرات حماد بن زيد أحاديث ، فقال : ما أجود أحاديثك لو كان لها أجنحة )) ، يعني الأسانيد .
وقال علي بن المديني : (( قال يحيى قال هشام بن عروة إذا حدثك رجل بحديث فقل : عمن هو وممن سمعته ، فإن الرجل يحدث عن آخر دونه . قال يحيى ، فعجبت من فطنته )) .
وقد روى عن ابن سيرين معنى ذلك ، خرج مسلم في مقدمة كتابه من طريق هشام عن ابن سيرين قال : إن هذا العلم دين ، فأنظروا عمن تأخذون دينكم ؟ )) .
وخرّجه العقيلي في مقدمة كتابه من طريق ابن عون عن ابن سيرين وزاد قال : (( وذكر عند محمد حديث عن أبي قلابة فقال : إنا لا نتهم أبي قلابة ، ولكن عمن أخذه أبو قلابة ؟ )) .
وفي رواية له أيضاً عن ابن عون قال : ذكر أيوب لمحمد حديثاً عن أبي قلابة ، قال فقال : (( أبو قلابة إن شاء الله رجل صالح ، ولكن عمن ذكره أبو قلابة ؟ )) .
ومن طريق أيوب عن ابن سيرين أنه كان إذا حدثه الرجل الحديث ينكره لم يُقبل عليه ذاك الإقبال ، ثم يقول : (( إني لا أتهمك ولا أتهم ذاك ،ولكن لا أدري من بينكم )) .
ومن طريق عبيد الله بن عمر قال قال محمد بن سيرين : (( إن الرجل ليحدثني بالحديث لا أتهمه ولكن أتهم من حدثه ، وإن الرجل ليحدثني بالحديث عن الرجل فما أتهم الرجل ، ولكن أتهم من حدثني )) .
وذكر أيضاً من طريق أن التيمي حدّث عن ابن سيرين بشئ ، فبلغ ابن سيرين فكذبه ، فقال التيمي : حدثنيه مؤذن لنا عن ابن سيرين )) . وخرجه غيره ، وعنده أن المؤذن سئل فقال : (( حدثني رجل عن ابن سيرين )) .
وروى الشافعي أنا عمي محمد بن علي عن هشام بن عروة عن أبيه قال : (( إني أسمع الحديث استحسنه ، فما يمنعني من ذكره إلا كراهة أن يسمعه سامع فيقتدي به ، أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدثه عمن أثق به ، وأسمعه من الرجل أثق به فيحدثه عمن لا أثق به )) .
وقد روى عن زيد بن أسلم أنه قال : (( إن هذا العلم دين فانظروا ممن تأخذون دينكم )) . خرجه ابن حبان ، وخرجه أيضاً من كلام الحسن ، وأنس بن سيرين ، والضحاك بن مزاحم ، والنخعي . وخرجه أيضاً بإسناد لا يصح عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما .
وخرجه ابن عدي من وجوه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولا يصح منها شئ .
وروى أبو نعيم من طريق إسحاق بن بشر الرازي قال قال ابن المبارك : (( ليس جودة الحديث في قرب الإسناد ، ولكن جودة الحديث في صحة الرجال )) .
وخرّج الحاكم في المدخل بإسناده عن ضمرة عن ابن شوذب عن مطر الوراق في قوله تعالى [ أو أثارة من علم ] قال : إسناد الحديث .


















* كلام الأئمة في الرجال *
قال الترمذي رحمه الله :
( حدثنا أحمد بن عبده نا وهب بن زمعة عن عبد الله بن المبارك : أنه ترك حديث الحسن بن عمارة ، والحسن بن دينار ، وإبراهيم بن محمد الأسلمي ، ومقاتل بن سليمان ، وعثمان البري ، وروح بن مسافر وأبي شيبة الواسطي ، وعمرو بن ثابت ، وأيوب بن خوط ، وأيوب بن سويد ، ونصر بن طريف أبي جزي ، والحكم ، وحبيب بن حجر ، والحكم روى له حديثاً في كتاب الرقائق ثم تركه ، وحبيب لا أدري .
قال أحمد بن عبده وسمعت عبدان يقول : كان عبد الله بن المبارك قرأ أحاديث بكر بن خنيس ، فكان آخراً إذا أتى عليها أعرض عنها ولم يذكرها .
حدثنا أحمد ثنا أبو وهب قال سموا لعبد الله بن المبارك رجلاً يتهم في الحديث ، فقال : (( لأن أقطع الطريق أحب إلىّ من أن أحدث عنه )) ) .
قال الإمام أحمد : ثنا حسن بن عيسى قال : (( ترك ابن المبارك الحسن بن دينار ، وعمرو بن ثابت ، وأيوب بن خوط ، ومحمد بن سالم ، وعبيدة والسري بن إسماعيل )) ، يعني أنه ترك الحديث عنهم .
وذكر حرب الكرماني في كتابه قال : (( بلغني أن ابن المبارك ترك حديث عباد بن كثير ، والحسن بن دينار ، والحسن بن عمارة ، وروح بن مسافر ، وابن سمعان ، وعمرو بن ثابت )) .
وقال ابن المبارك : (( ما يسوي حديث عباد بن كثير عندي كفا من تراب )) .
وهؤلاء الذين سماهم الترمذي في روايته مشهورون بالضعف ، وقد سبق ذكرهم مفرقاً في الكتاب في مواضع متعددة .
وإبراهيم بن محمد الأسلمي : هو ابن أبي يحيى المدني .
وعثمان البري : هو بصري ضعيف معتزلي أحاديثه مناكير  ، قال أحمد : (( حديث منكر ، وكان رأيه رأي سوء )) .
وأبو شيبة الواسطي : هو إبراهيم بن عثمان ، جدُ بني أبي شيبة .
وعمرو بن ثابت : هو ابن أبي المقدام الكوفي .
وأيوب بن سويد : هو الرملي .
وأما الحكم : فالظاهر أنه عبد الله بن سعد الأيلي ، وقد حكى البخاري وابن حبان وغيرهما هن ابن المبارك أنه كان يحمل عليه .
وحكى ابن أبي حاتم عن أبيه أن ابن المبارك كان تركه ، وكذا ذكر ابن عدي في ترجمة الحكم الأيلي ( عن الحسين بن يوسف نا أبو عيسى الترمذي نا أحمد بن عبده نا وهب بن زمعة عن عبد الله بن المبارك ) أنه ترك حديث الحكم .
وأما حبيب بن حجر فهو حُبَيِّب بن حجر بالتشديد ، تصغير حبيب ، كذا قاله يزيد بن هارون وموسى بن إسماعيل ، ورويا عنه ، وكناه يزيد أبا حجر ، وكناه موسى أبا يحيى ، وهو قيسي بصري ، وقال ابن المبارك : هو حبيَّب أو حبيب ، شك في ضبطه وهو يروي عن ثابت البناني والأزرق بن قيس .
وقد ذكرنا له حديثاً في كتاب الأدب ، في باب السلام على الصبيان ، وروى عنه أيضاً وكيع ويونس وروح وابن المبارك ، وكناه روح أبا حجر أيضاً ، وذكره ابن حبان في ثقاته .
وقال يحيى بن معين : (( ليس به بأس )) .
وقد ذكر ابن عدي أن ابن المبارك إنما ترك حُبيِّب بن حبيب أخا حمزة الزيات ، فأنه ذكره في كتابه ثم قال : (( نا حسين بن يوسف البندار ثنا أبو عيسى الترمذي ثنا أحمد بن عبدة الآملي نا وهب بن زمعة عن ابن المبارك أنه ترك حُبيّب بن حبيب ، وذكر عن ابن معين أنه قال : (( لا أعرفه )) وعن عثمان بن أبي شيبة أنه روى عنه وقال : ((كان ثقة )) وقد وثقه ابن معين في رواية أخرى عنه ، ويعقوب بن شيبة ، وقال : (( ليس ممن يعتمد على تثبته )) ، وقال أبو زرعة : (( واهي الحديث )) .
وقد تكلم ابن المبارك في غير هؤلاء ، فذكر مسلم في مقدمة كتابه عن إسحاق بن رواهويه قال قا ل: سمعت بعض أصحاب عبد الله . قال : قال ابن المبارك : (( نعم الرجل بقية لولا أنه يكنى الأسامي ، ويسمى الكنى ، قال : كان دهراً يحدثنا عن أبي سعيد الوحاطي فنظرنا فإذا هو عبد القدوس )) .
قال مسلم ونا أحمد بن يوسف الأزدي سمعت عبد الرزاق يقول : (( ما رأيت ابن المبارك يفصح بقوله كذاب إلا لعبد القدوس فإني سمعته يقول له : (( كذاب )) .
قال : وحدثني محمد بن عبد الله بن قهزاذ قال سمعت أبا إسحاق الطالقاني يقول : سمعت ابن المبارك يقول : (( لو خيرت بين أن أدخل الجنة ، وبين أن ألقى عبد الله بن محرر لاخترت أن ألقاه ثم أدخل الجنة ، فلما رأيته كانت بعرة أحب إلىّ منه )) .
قال : وسمعت الحسن بن عيسى يقول : قال لي ابن المبارك : (( إذا قدمت على جرير فاكتب علمه كلة ، إلا حديث ثلاثة : لا تكتب حديث عبيدة بن معتب ، والسري بن إسماعيل ، ومحمد بن سالم )) . قال : وحدثني محمد بن عبد الله بن قهزاذ أخبرني علي بن حسين بن واقد قال قال عبد الله بن المبارك : قلت لسفيان الثوري : إن عباد بن كثير من تعرف حاله ، فإذا حدث جاء بأمر عظيم ، فترى أن أقول للناس : لا تأخذوا عنه ؟ قال سفيان : بلى . قال عبد الله فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد . أثنيت عليه في دينه ، وأقول : (( لا تأخذوا عنه )) .
قال الترمذي رحمه الله :
( أخبرني موسى بن حزام نا يزيد بن هارون قال : (( لا يحل لأحد أن يروي عن سليمان بن عمرو النخعي الكوفي ) .
سليمان هذا هو أبو داود النخعي وهو مشهور بالكذب ووضع الحديث . وقال أحمد : (( كان كذاباً ، سئل شريك عنه فقال : ذاك كذاب النخع )) .
وقال قتيبة : (( هو معروف باالكذب )) . ونسبه إلى ( الوضع ) أحمد وإسحاق ويحيى وغيرهم . قال ابن عدي : (( اجمعوا علي أنه يضع الحديث )) .

*     *     *
قال الترمذي رحمه الله :
( حدثنا محمود بن غيلان ثنا أبو يحيى الحمَّاني سمعت أبا حنيفة يقول : (( ما رأيت أحداً أكذب من جابر الجعفي ، ولا أفضل من عطاء بن أبي رباح )) .
سمعت الجارود يقول سمعت وكيعاً يقول : (( لولا جابر الجعفي لكان أهل الكوفة بغير حديث ، ولولا حماد لكان أهل الكوفة بغير فقه )) .
هذا يوجد في بعض النسخ ولا يوجد في بعض .
وجابر الجعفي قد سبق ذكره مستوفي في أبواب الأذان وما ذكره وكيع غلو غير مقبول ، فأين أبو إسحاق ، والأعمش ، ومنصور وغيرهم من أهل الثقة والصدق والأمانة ، وأين إبراهيم وغيره من أهل الفقه والعلم ؟! وإسقاط هذا من الكتاب أولى ، مع أن الترمذي قد ذكره في غير هذا الموضع من كتابه أيضاً .
*     *     *











* رواية الضعفاء والرواية عنهم *
قال [ أبو عيسى ] رحمه الله :
( سمعت أحمد بن الحسن يقول : كنا عند أحمد بن حنبل فذكروا من تجب عليه الجمعة ، فذكر فيه عن بعض أهل العلم من التابعين وغيرهم ، فقلت : (( فيه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حديث )) . فقال : عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ! ؟ قلت : نعم ، حدثنا حجاج بن نصير أنا المعارك بن عباد عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( الجمعة على من أواه الليل إلى أهله )) ، قال فغضب أحمد وقال : (( استغفر ربك ، استغفر ربك )) ، مرتين .
قال أبو عيسى : وإنما فعل أحمد هذا لأنه لم يصدق هذا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لضعف إسناده [ و ] لأنه لا يعرفه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم . والحجاج بن نصير يضعف في الحديث ، وعبد الله بن سعيد المقبري ضعفه يحيى بن سعيد القطان جداً في الحديث .
فكل من روى عنه حديث ممن يتهم و يضعف لغفلته أو لكثرة خطئه ولا يعرف ذلك الحديث إلا من حديثه فلا يحتج به ) .
هذه الحكاية عن أحمد بن الحسن عن أحمد بن حنبل قد ذكرها الترمذي أيضاً في كتابه الجمعة ، وسبق ذكر هذا الحديث هناك وبيان ضعفه ، وفيه ثلاثة من الضعفاء : حجاج بن نصير ، الفساطيطي ، ومعارك بن عباد ، وعبد الله بن سعيد المقبري وهو أبو عباد ، وقد سبق ذكره وذكر حجاج أيضاً ومعارك في الكتاب في غير موضع ، وكان الثوري يروي عن أبي عباد هذا ويقول : (( استبان لي كذبه في مجلس )) . وكان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه ، وقال يحيى ابن معين : (( لا يكتب حديثه )) . وقال البخاري : (( تركوه )) .
وأما ما ذكره الترمذي أن الحديث إذا انفرد به من هو متهم بالكذب ، أو [ من ] هو ضعيف في الحديث لغفلته وكثرة خطئه ولم يعرف ذلك الحديث إلا من حديثه فإنه لا يحتج به : فمراده أنه لا يحتج به في الأحكام الشرعية ، والأمور العلمية ، وإن كان قد يروي حديث بعض هؤلاء في الرقائق والترغيب والترهيب ، فقد رخص كثير من الأئمة في رواية الأحاديث الرقاق ونحوها عن الضعفاء . منهم ابن مهدي وأحمد بن حنبل .
وقال رواد بن الجراح سمعت سفيان الثوري يقول : (( لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان ، ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ .
[ و ] قال ابن أبي حاتم ثنا أبي عبدة قال : قيل لابن المبارك – وروى عن رجل حديثاً – فقيل : هذا رجل ضعيف ! فقال : يحتمل أن يروي عنه هذا القدر أو مثل هذه الأشياء .
قلت لعبدة : مثل أي شئ كان ؟ قال : في أدب في موعظة في زهد .
وقال ابن معين في موسى بن عيينة يكتب من حديثه الرقاق )) .
وقال ابن عيينة : (( لا تسمعوا من بقية ما كان في سنة ، واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره )) .
وقال أحمد في ابن إسحاق : (( يكتب عنه المغازي وشبهها )) .
وقال ابن معين في زيادٍ البكائي : (( لا بأس في المغازي ، وأما في غيرها فلا )) .
وإنما يروي في الترغيب والترهيب والزهد والآداب أحاديث أهل الغفلة الذين لا يتهمون بالكذب ، فأما أهل التهمة فيطرح حديثهم ، كذا قال ابن أبي حاتم وغيره .
وظاهر ما ذكره مسلم في مقدمة كتابه يقتضي أنه لا تروى أحاديث الترغيب والترهيب إلا عمن تروى عنه الأحكام .
قال الترمذي رحمه الله :
( وقد روى غير واحد من الأئمة عن الضعفاء وبينوا أحوالهم للناس :
حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن المنذر الباهلي بن عبيد قال : قال لنا سفيان الثوري : (( التقوا الكلبي ، قال : فقيل له : فإنك تروي عنه ؟ قال : أنا أعرف صدقه من كذبه )) .
وأخبرني محمد بن إسماعيل حدثني يحيى بن معين ثنا عفان عن أبي عوانة قال : (( لما مات الحسن البصري رحمه اله اشتهيت كلامه ، فتتبعته عن أصحاب الحسن ، فأتيت به أبان بن أبي عياش ، فقرأه عليّ كله عن الحسن ، فما أستحل أن أروي عنه شيئاً )) .
قال أبو عيسى : وقد روي عن أبان بن أبي عياش غير واحد من الأئمة ، وإن كان فيه من الضعف والغفلة ما وصفه أبو عوانة وغيره ، فلا تغتروا برواية الثقات عن الناس ، لأنه يروي عن ابن سيرين أنه قال : إن الرجل ليحدثني فماأتهمه ، ولكن أتهم من فوقه )) .
وقد روي غير واحد عن إبراهيم النخعي أن عبد الله بن مسعود كان يقنت في وتره قبل الركوع ، وروي أبان ابن أبي عياش عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقنت في وتره قبل الركوع ، هكذا روى سفيان الثوري عن أبان بن أبي عياش ، وروى بعضهم عن أبان بن أبي عياش بهذا الإسناد نحو هذا وزاد فيه : قال عبد الله ابن مسعود : (( وأخبرتني أمي أنها باتت عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرأت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقنت في وتره قبل الركوع )) .
قال أبو عيسى : وأبان بن أبي عياش – وإن كان قد وصف بالعبادة والاجتهاد – فهذه حاله في الحديث ، والقوم كانوا أصحاب حفظ ، فرب رجل – وإن كان صالحاً – لا يقيم الشهادة ولا يحفظها .
فكل من كان متهماً في لحديث بالكذب ، أو كان مغفلاً يخطئ الكثير فالذي اختاره أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه ، ألا ترى أن عبد الله بن المبارك حدث عن قوم من أهل العلم ، فلما تبين له أمرهم ترك الرواية عنهم .
أخبرني موسى بن حزام سمعت صالح بن عبد الله يقول : (( كنا عند أبي مقاتل السمرقندي ، فجعل يوري عن عون بن أبي شداد الأحاديث الطوال التي كان - يروي في وصية لقمان ، وقتل سعيد ابن جبير وما أشبه هذه الأحاديث . فقال ابن أخ لأبي مقاتل (( يا عم لا تقل حدثنا فإنك لم تسمع هذه الأشياء )) . قال : (( يا بني هو كلام حسن )) .
وسمعت الجارود يقول : كنا عند أبي معاوية ، فذكر له حديث أبي مقاتل عن سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان قال : سئل علي عن كور الزنانير قال : (( لا بأس به ، هو بمنزلة صيد البحر )) فقال أبو معاوية : ما أقول : إن صاحبكم كذاب ، ولكن هذا الحديث كذب ) .
ما ذكره الترمذي رحمه الله يتضمن مسائل من علم الحديث
إحداها : إن رواية الثقة عن رجل لا تدل على توثيقه
فإن كثيراً من الثقات رووا عن الضعفاء ، كسفيان الثوري وشعبة وغيرهما ، وكان شعبة يقول : (( لو لم أحدثكم إلا عن الثقات لم أحدثكم إلا عن نفر يسير )) .
قال يحيى القطان : (( إن لم أرو إلا عمن أرضى ما رويت]إلا [عن خمسة أو نحو ذلك )) .
وقد اختلف الفقهاء وأهل الحديث في رواية الثقة عن رجل غير معروف ، هل هو تعديل له أم لا ؟ وحكى أصحابنا عن أحمد في ذلك روايتين . وحكوا عن الحنفية أنه تعديل ،
وعن الشافعية خلاف ذلك ، والمنصوص عن أحمد يدل على أنه من عرف منه أنه لا يروي إلا عن ثقة فروايته عن إنسان تعديل له ، ومن لم يعرف منه ذلك فليس بتعديل ، وصرح بذلك طائفة من المحققين من أصحابنا وأصحاب الشافعي .
قال أحمد – في رواية الأثرم - : (( إذا روى الحديث عبد الرحمن ابن مهدي عن رجل فهو حجة ، ثم قال : كان عبد الرحمن أولاً يتساهل في الرواية عن غير واحد ثم تشدد بعدها ، وكان يروي عن جابر ثم تركه )) .
وقال في رواية أبي زرعة : (( مالك بن أنس إذا روى عن رجل لا يعرف فهو حجة )) .
وقال في رواية ابن هانئ : (( ما روى مالك عن حد إلا وهو ثقة ، كل من ورى عنه مالك فهو ثقة )) .
وقال الميموني ، سمعت أحمد غير مرة يقول : (( كان مالك من أثبت الناس ، ولا تبال أن لا تسأل عن رجل روى عنه مالك ، ولا سيما مديني )) . قال الميموني : وقال لي يحيى بن معين : (( لا تريد أن تسأل عن رجال مالك ، كل من حدث عنه ثقة إلا رجلاً أو رجلين )) .

* بحث في المجهول وقولهم غير مشهور *
وقال يعقوب بن شيبة : قلت ليحيى بن معين : (( متى يكون الرجل معروفاً ؟ إذا روى عنه كم ؟ )) قال : (( إذا روى عن الرجل مثل ابن سيرين والشعبي ، وهؤلاء أهل العلم فهو غير مجهول )) . قلت : (( فإذا روى عن الرجل مثل سماك بن حرب وأبي إسحاق ؟ )) . قال : (( هؤلاء يروون عن مجهولين )) انتهى .
وهذا تفصيل حسن ، وهو يخالف إطلاق محمد بن يحيى الذهلي الذي تبعه عليه المتأخرون أنه لا يخرج الرجل من الجهالة إلا برواية رجلين فصاعداً عنه .
وابن المديني يشترط أكثر من ذلك ، فإنه يقول فيمن يروي عنه ابن أبي كثير وزيد بن أسلم معاً : (( أنه مجهول )) ، ويقول فيمن يروي عنه شعبة وحده : (( إنه مجهول )) .
وقال فيمن يروي عنه ابن المبارك ووكيع وعاصم : (( هو معروف )) . وقال فيمن روى عنه عبد الحميد بن جعفر وابن ليهعة : (( ليس بالمشهور )) . وقال فيمن يروي عنه المقبري وزيد بن أسلم : (( معروف )) . وقال في يُسيع الحضرمي : (( معروف )) . وقال مرة أخرى : (( مجهول روى عنه ذَرٌ وحده )) . وقال فيمن روى عنه مالك وابن عيينة : (( معروف )) .
وقد قسم المجهولين من شيوخ أبي إسحاق إلى طبقات متعددة ، والظاهر أنه ينظر إلى اشتهار الرجل بين العلماء ، وكثرة حديثه ونحو ذلك ، لا ينظر إلى مجرد رواية الجماعة عنه . وقال في داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص : (( ليس بالمشهور )) ، مع أنه روى عنه جماعة .
وكذا قال أبو حاتم الرازي في إسحاق بن أسيد الخراساني ، (( ليس بالمشهور )) مع أنه روى عنه جماعة من المصريين لكنه لم يشتهر حديثه بين العلماء .
وكذا قال أحمد في حصين بن عبد الرحمن الحارثي : (( ليس بعرف )) ما روى عنه غير حجاج بن أرطأة وإسماعيل بن أبي خالد روى عنه حديثاً واحداً )) .
وقال في عبد الرحمن بن وعلة : (( إنه مجهول )) مع أنه روى عنه جماعة ، لكن مراده أنه لم يشتهر حديثه ولم ينتشر بين العلماء .
وقد صحح حديث بعض من ورى عنه واحد ولم يجعله مجهولاً ، قال في خالد بن سمير : (( لا أعلم عنه أحد سوى الأسود بن شيبان ولكنه حسن الحديث )) . وقال مرة أخرى : (( حديثه عندي صحيح )) .
وظاهر هذا أنه لا عبرة بتعدد الرواة ، إنما العبرة بالشهرة ورواية الحفاظ الثقات .
وذكر ابن عبد البر في استذكاره : إن من روى عنه ثلاثة فليس بمجهول ، قال : وقيل : اثنان .
وقد سئل مالك عن رجل فقال : (( لو كان ثقة لرأيته في كتبي )) ذكره مسلم في مقدمته من طريق بشر بن عمر عن مالك .
وقال ابن أبي خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول : سمعت ابن عيينة يقول : (( إنا كنا نتبع آثار مالك بن أنس وننظر الى الشيخ إن كان مالك بن أنس كتبه عنه ، وإلا تركناه )) .
قال القاضي  إسماعيل : (( إنما يعتبر بمالك في أهل بلده ، فأما الغرباء فليس يحتج به فيهم )) ، وبنحو هذا اعتذر غير واحد عن ( مالك في روايته ) عن عبد الكريم أبي أمية وغيره من الغرباء .
* رواية الثقات عن غير ثقة *
قال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة مما يقوية ؟ )) . قال : (( إذا كان معروفاً بالضعف لم تقوه روايته عنه ، وإن كان مجهولاً نفعه رواية الثقة عنه )) .
قال وسمعت أبي يقول : (( إذا رأيت شعبة يحدث عن رجل فأعلم أنه ثقة إلا نفر بأعيانهم )) . وسألت أبا زرعة عن رواية الثقات عن الرجل مما يقوى حديثه ؟ قال : (( أي لعمري ! )) .
قلت : (( الكلبي روى عنه الثوري ؟ )) . قال : (( إنما ذاك إذا لم يتكلم فيه العلماء ، وكان الكلبي يُتَكلم فيه )) . قلت : فما معنى رواية الثوري عنه وهو غير ثقة عنده ؟ )) . قال : (( كان الثوري يذكر الرواية عن الرجل عن الإنكار والتعجب فيعقلون عنه روايته عنه ، ولم يكن روايته عن الكلبي قبوله له )) .
وذكر العقيلي بإسناد له عن الثوري قال : (( إني لأروي الحديث على ثلاثة أوجه : أسمع الحديث من الرجل أتخذه ديناً ، وأسمع الحديث من الرجل أوقف حديثه وأسمع الحديث من الرجل لا أعبأ بحديثه وأحب معرفته )) .
المسألة الثانية : الرواية عن الضعفاء
من أهل التهمة بالكذب والغفلة وكثرة الغلط

وقد ذكر الترمذي للعلماء في ذلك قولين :
أحدهما : جواز الرواية عنهم حكاه عن سفيان الثوري ، لكن كلامه في روايته عن الكلبي يدل على أنه لم يكن يحدث إلا بما يعرف أنه صدق .
والثاني : الامتناع من ذلك ، ذكره عن أبي عوانة وابن المبارك ، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل الحديث من الأئمة .
وقد ذكر الحاكم المذهب الأول عن مالك والشافعي أبي حنيفة ، واعتمد في حكايته عن مالك على روايته عن عبد الكريم أبي أمية ، ولكن قد ذكرنا عذره في روايته عنه ، وفي حكايته عن الشافعي على روايته عن إبراهيم بن أبي يحيى ، وأبي داود سليمان بن عمرو النخعي ، وغيرهما من المجروحين ، وفي حكايته عن أبي حنيفة على روايته عن جابر الجعفي وأبي العطوف الجزري .
قال : وحدث أبو يوسف ومحمد بن الحسن عن الحسن بن عمارة وعبد الله بن محرر وغيرهما من المجروحين .
قال : وكذلك من بعدهم من أئمة المسلمين قرناً بعد قرن ، وعصراً بعد عصر إلى عصرنا هذا ، لم يخل حديث إمام من أئمة الفريقين عن مطعون فيه المحدثين .
وللأئمة في ذاك غرض ظاهر :
وهو أن يعرفوا الحديث من أين مخرجه ، والمنفرد به عدل أو مجروح . ثم روى بإسناده عن الأثرم قال : (( رأى أحمد بن حنبل يحيى بن معين بصنعاء يكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس ، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه ، فقال له أحمد : تكتب صحيفة معمر عن أبان وتعلم أنها موضوعة ! ؟ فلو قال لك قائل : أنت تتكلم في أبان ثم تكتب حديثه على الوجه ! ؟ )) .
فقال : (( رحمك الله يا أبا عبد الله ، أكتب هذه الصحيفة عن عبد الرزاق عن معمر على الوجه فأحفظها كلها وأعلم أنه موضوعة ، حتى لا يجئ بعده إنسان فيجعل بدل أبان ثابتاً ، ويرويها عن معمر عن ثابت عن أنس ، فأقول له : كذبت ! إنما هي عن معمر عن أبان لا عن ثابت )) .
وذكر أيضاً من طريق أحمد بن علي الأبار قال : قال يحيى ابن معين : (( كتبنا عن الكذابين وسجرنا به التنور وأخرجنا به خبزاً نضيجاً )) .
وخرّج العقيلي من طريق أبي غسان قال : (( جاءني علي بن المديني فكتب عن عبد السلام بن حرب أحاديث إسحاق ابن أبي فروه ، فقلت : أي شئ تصنع بها ؟ قال : أعرفها حتى لا تقلب )) .
قلت : فرق بين كتابة حديث وبين روايته :
فإن الأئمة كتبوا أحاديث الضعفاء لمعرفتها ولم يرووها ، كما قال يحيى : سجرنا بها التنور ، وكذلك أحمد ( خرق حديث خلق ممن كتب حديثهم ولم يحدث به ، وأسقط من المسند حديث خلق من المتروكين ) لم يخرجه فيه مثل قايد أبي الورقاء وكثير ابن عبد الله المزني وأبان بن أبي عياش وغيرهم ، وكان يحدث عمن دونهم في الضعف .
قال في رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ : (( قد يحتاج الرجل يحدث عن الضعيف مثل عمرو بن مرزوق ، وعمرو بن حكام ، ومحمد بن معاوية ، وعلي بن الجعد ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ، ولا يعجبني أن يحدث عن بعضهم )) .
وقال في روايته أيضاً – وقد سأله ترى أن تكتب الحديث المنكر ؟ - إليهم في وقت )) ، كأنه لم ير بالكتابة عنهم بأساً .
وقال – في رواية ابن القاسم - : (( ابن ليهعة ما كان حديثه بذاك ، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال ، إنما قد أكتب حديث الرجل كأني استدل به مع حديث غيره يشده لا أنه حجة إذا انفرد )) .
وقال في رواية المروذي : (( كنت لا أكتب حديث جابر الجعفي ( ثم كتبته أعتبر به ) .
وقال في – رواية مهنا وسأله لمَ تكتب حديث أبي بكر بن أبي كريم وهو ضعيف – قال : (( أعرفه )) .
وقال محمد بن رافع النيسابوري : (( رأيت أحمد بين يدي يزيد ابن هاترون وفي يده كتاب لزهير عن جابر الجعفي وهو يكتبه ، قلت : يا أبا عبد الله : تنهونا عن جابر وتكتبوه ؟ ! قال : نعرفه )) .
وكذا قال]أحمد [في حديث عبيد الله الوصافي : (( إنما أكتبه للمعرفة )) .
والذي يتبين من عمل الإمام أحمد وكلامه أنه يترك الرواية عن المتهمين [ والذين غلب عليهم الخطأ ] للغفلة وسوء الحفظ ، ويحدث عمن دونهم في الضعف ، مثل من في حفظه شئ أو يتختلف الناس في تضعيفه وتوثيقه .
وكذلك كان أبو زرعة الرازي يفعل .
وأما الذين كتبوا حديث الكذابين – من أهل المعرفة والحفظ – فإنما كتبوه لمعرفته ، وهذا كما ذكروا أحاديثهم في كتب الجرح والتعديل .
ويقول بعضهم في كثير من أحاديثهم : لا يجوز ذكرها إلا ليبيّن أمرها أو معنى ذلك .
وقد سبق عن أبي حاتم أنه يجوز رواية حديث من كثرت غفلته في غير الأحكام ، وأما رواية أهل التهمة بالكذب فلا تجوز إلا مع بيان حاله ، وهذا هو الصحيح ، والله أعلم .

المسألة الثالثة :
* من ضعف من أهل العبادة لسوء حفظه *

ذكر الترمذي : أنه رب رجل صالح مجتهد في العبادة ، ولا يقيم الشهادة ولا يحفظها ، وكذلك الحديث لسوء حفظه وكثرة غفلته ، وقد سبق قول ابن المبارك في عباد بن كثير وعبد الله بن محرر .
وروى مسلم في مقدمة كتابه من طريق محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن أبيه قال : (( لن ترى الصالحين في شئ أكذب منهم في الحديث )) .
قال مسلم : (( يقول : يجري الكذب على ألسنتهم ولا يتعمدون الكذب )) .
وروى أيضاً بإسناد له عن أيوب قال : (( إن لي جاراً ثم ذكر من فضله ، ولو شهد [ عندي ] على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة )) .
وروى ابن عدي بإسناده عن أبي عاصم النبيل قال : (( ما رأيت الصالح يكذب في شئ أكثر من الحديث )) .
وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي أسامة قال : (( إن الرجل يكون صالحاً ويكون كذاباً )) ، يعني يحدث بما لا يحفظ .
وروى عمرو الناقد سمعت وكيعاً يقول وذكر له حديث يرويه وهب بن إسماعيل فقال : (( ذاك رجل صالح ، وللحديث رجال )) .
وروى أبو نعيم بإسناده عن ابن مهدي قال : (( فتنة الحديث أشد من فتنة المال وفتنة الولد ، ولا تشبه فتنتة فتنة ، كم من رجل يظن به الخير قد حمله فتنة الحديث على الكذب )) .
يشير إلى أن من حدث من الصالحين من غير إتقان وحفظ ، فإنما حمله على ذلك حب الحديث والتشبه بالحفاظ ، فوقع في الكذب على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو لا يعلم ، ولو تورع واتقى الله لكف على ذلك فسلم .
قال أبو قلابه : عن علي بن المديني : سئل يحيى بن سعيد عن مالك بن دينار ، ومحمد بن واسع ، وحسان بن أبي سنان فقال : (( ما رأيت الصالحين فس شئ أكذب منهم في الحديث ، لأنهم يكتبون عن كل ما يلقون لا تمييز لهم فيه )) .
وقال الجوزجاني : سمعت أبا قدامة يقول سمعت يحيى بن سعيد يقول : (( رب رجل صالح لو لم يحدث كان خيراً له ، إنما هو أمانة ، تأدية الأمانة في الذهب والفضة أيسر منه في الحديث )) .
ويروي عن أبي عبد الله ابن منده قال : (( إذا رأيت في حديث ثنا فلان الزاهد فاغسل يدك منه )) .
وقال ابن عدي : (( الصالحون قد وسموا بهذا الاسم إن يرووا أحاديث في فضائل الأعمال موضوعة بواطيل ، ويتهم جماعة منهم بوضعها )) انتهى .










وهؤلاء المشتغلون بالتعبد
الذين يترك حديثهم على قسمين :
منهم من شغلته العبادة عن الحفظ :
فكثر الوهم في حديثه ، فرفع الموقوف ، ووصل المرسل . وهؤلاء مثل أبان بن أبي عياش ، ويزيد الرقاشي ، وقد كان شعبة يقول في كل واحد منهما : (( لأن أزني أحب إلىّ من أن أحدث عنه!! ))
ومثل جعفر بن الزبير ، ورشدين بن سعد ، وعباد بن كثير ، وعبد الله بن محرر ، والحسن بن أبي جعفر وغيرهم .
ومنهم من كان يتعمد الوضع ويتعبد بذلك :
كما ذكر عن أحمد بن محمد بن غالب غلام خليل ، وعن زكريا بن يحيى الوقار المصري .
وقد ذكر الترمذي من أهل العبادة المتروكين رجلين :
أحدهما : أبان بن أبي عياش :
وذكر حكاية أبي عوانة عنه ، أنه جمع حديث الحسن ثم أتى به إليه فقرأه كله عليه ، يعني أنه رواه له كله عن الحسن ، ولم يتوقف في ذلك .
وقال أحمد قال لي عفان : (( أول من أهلك أبان بن أبي عياش أبو عوانة ، جمع حديث الحسن عامته فجاء به إلى أبان فقرأه عليه )) .
وقال مسلم في أول كتابه (( ثنا الحسن الحلواني سمعت عفان قال : سمعت أبا عوانة يقول : (( ما بلغني عن الحسن إلا أتيت به أبان بن أبي عياش فقرأه عليّ )) .
ثنا سويد بن سعيد ثنا علي بن مسهر قال : سمعت أنا وحمزة الزيات من أبان بن أبي عياش نحواً من ألف حديث . قال علي : (( فلقيت حمزة فأخبرني أنه رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المنام فعرض عليه ما سمع من أبان فما عرف منها إلا شيئاً يسيراً : خمسة أو ستة )) .
وذكر العقيلي هذه الحكاية ثم قال : وقال لنا أحمد بن علي الأبار – وكان شيخاً صالحاً - : (( وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المنام فقلت : يا رسول الله أترضى أبن بن أبي عياش ؟ قال : لا )) .
وذكر له الترمذي حديث القنوت في الوتر فإنه رفعه ، والناس يقفونه علي ابن مسعود ، وربما وقف على إبراهيم ، وقد سبق ذكره في أبواب الوتر من كتاب الصلاة .
وكان أبان لسوء حفظه يفعل ذلك كثيراً : يرفع الموقوف ويصل المرسل . قال أبو زرعة : (( لم يكن يتعمد الكذب كان يسمع الحديث من أنس ومن شهر بن حوشب ومن الحسن فلا يميز بينهم .
قال ابن عدي : (( قد حدث عنه الثوري ، ومعمر ، وابن جريج ، وإسرائيل ، وحماد بن سلمة ، وغيرهم ، وأرجو أنه ممن لا يتعمد الكذب إلا أنه يشبه عليه ويغلط ، وعامة ما أتي من جهة الرواة عنه لا من جهته ، لأنه قد روى عنه قوم مجهولون . وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق ، كما قال شعبة )) .
وذكر أنه شعبة حدث عنه بحديث قنوت الوتر ، فقيل له : تقول فيه ما قلت ثم تحدث عنه ؟ قال : (( إني لم أجد هذا الحديث إلا عنده )) ذكرها من وجه منقطع . والمعروف أن شعبة قيل له : لم سمعت منه هذا الحديث ؟ قال : ومن يصبر على هذا ؟ ! ، أخرجه العقيلي وغيره .
الرجل الآخر : أبو مقاتل السمرقندي :
واسمه حفص بن سلم الفزاري ، وهو من العباد ، يروي عن الكوفيين كأبي حنيفة ، ومسعر ، والثوري ، وعن البصريين كأيوب ، والتيمي ، وعن الحجازيين كهشام بن عروة ، وعبيد الله ابن عمر ، وسهيل .
قال أبو يعلى الخليلي في كتاب الإرشاد : (( هو مشهور بالصدق والعلم ، غير مخرج في الصحيح ، وكان ممن يفتي في أيامه ، وله في العلم والفقه محل ، يعتنى بجمع حديثه )) .
وذكره الحاكم في تاريخ نيسابور وقال : (( يروي المناكير )) ، وسئل عنه إبراهيم بن طهمان فقال : خذوا عنه عبادته وحسبكم )) . وقد أفحش قتيبة بن سعيد وغيره القول فيه ، مات سنة ثمان ومائتين
وذكره ابن حبان في كتاب الضعفاء وقال : (( كان صاحب تقشف وعبادة ولكنه كان يأتي بالأشياء المنكرة التي يعلم من كتب الحديث أنه ليس لها أصل يرجع إليه . سئل ابن المبارك عنه فقال : خذوا عن أبي مقاتل عبادته وحسبكم )) .
وكان قتيبة بن سعيد يحمل عليه شديداً ويضعفه بمرة ، وقال : كان لا يدري ما يحدث به . وكان عبد الرحمن بن مهدي يكذبه .
قال نصر بن حاجب المروزي : (( ذكرت أبا مقاتل لعبد الرحمن ابن مهدي فقال : والله لا تحل الرواية عنه ، فقلت له : عسى أن يكون كذب له في كتابه وجهل ذلك . فقال : يكتب في كتابه الحديث ؟! فكيف بما ذكرت عنه أنه قال : ماتت أمي بمكة فأردت الخروج منها فتكاربت فلقيت عبيد الله بن عمر فأخبرته بذلك ، بذلك فقال : حدثني نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( من زار قبر أمه كان كعمرة )) .
قال : فقطعت الكري وأقمت ، فكيف يكتب هذا في كتابه . وكذلك وكيع بن الجراح كان يكذبه ، وليس لهذا الحديث أصل يرجع إليه انتهى ما ذكره ابن حبان .
وذكره ابن عدي في كتابه وذكر بإسناده عن قتيبة [ ابن سعيد ] أنه سئل عن حديث كور الزنانير فقال : (( نا أبو مقاتل السمرقندي عن سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان سئل عليٌّ عن كور الزنانير فقال : هم من هذا البحر )) لا بأس به . قال فقلت : يا أبا مقاتل هو موضوع . قال بابا هو في كتابي تقول هو موضوع ؟ قال فقلت : نعم وضعوه في كتابك )) .
وذكر بإسناده عن الجوزجاني قال : (( أبو مقاتل السمرقندي كان فيما حدثت ينشئ للكلام الحسن إسناداً )) ثم خرج له ابن عدي أحاديث منكرة ثم قال : (( أبو مقاتل هذا له أحاديث كثير ويقع في أحاديثه مثل ما ذكرته وأعظم منه ، وليس هو ممن يعتمد على رواياته .
وذكره الإدريسي في تاريخ سمرقند وغير واحد من العلماء .
ووقع لابن أبي حاتم في ذكره غير وهم فإنه قال : (( حفص ابن سليمان أبو مقاتل ، روى عن عون بن أبي شداد ، روى عنه موسى بن إسماعيل الختلي )) . كذا قال . وقوله : (( ابن سليمان )) وهم ، وإنما هو (( ابن سليم )) . ثم قال : (( حفص بن مسلم أبو مقاتل السمرقندي ، روى عن الثوري وجويبر وعمر بن عبيد ، وروى عنه أبو تميلة وإبراهيم بن شماس ، سمعت أبي يقول بعض ذلك )) .
فقوله : (( ابن مسلم )) وهم أيضاً ، ووهم أيضاً حيث جعل الراوي عن عون بن أبي شداد غير هذا ، وهما رجل واحد .

* الاختلاف في قوم من جلة أهل الحديث *

قال [ أبو عيسى ] رحمه الله :
( وقد تكلم بعض أهل الحديث في قوم من جلة أهل العلم ، وضعفوهم من قبل حفظهم ، ووثقهم آخرون لجلالتهم وصدقهم ، وإن كانوا قد وهموا في بعض ما رووا .
وقد تكلم يحيى بن سعيد القطان في محمد بن عمرو ثم روى عنه :
حدثنا أبو بكر عبد القدوس محمد العطار البصري ثنا علي بن المديني قال : سألت يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو بن علقمة فقال : (( تريد العفو أو تشدد ؟ )) . فقلت : لا بل أشدد ، فقال : (( ليس هو ممن تريد ، كان يقول : أشياخنا أبو سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب )) .
قال يحيى : وسألت مالك بن أنس عن محمد بن عمرو ؟ فقال فيه نحو ما قلت ، قال علي : قال يحيى : ومحمد بن عمرو أعلى من سهيل بن أبي صالح وهو عندي فوق عبد الرحمن بن حرملة .
قال علي : (( فقلت ليحيى : ما رأيت من عبد الرحمن بن حرملة ؟ )) قال : (( لو شئت أن ألقنه لفعلت ، قلت : كان يلقن . قال : نعم )) .
     قال علي : (( ولم يرو يحيى عن شريك ولا عن أبي بكر بن عياش ولا عن الربيع بن صبيح ولا عن المبارك بن فضلة )) .
قال أبو عيسى :
وإن كان يحيى بن سعيد القطان قد ترك الرواية عن هؤلاء ، فلم يترك الرواية عنهم أنه اتهمهم بالكذب ، ولكنهم تركهم لحال حفظهم .
وذكر عن يحيى بن سعيد أنه كان إذا رأى الرجل يحدث عن حفظه مرة هكذا ومرة هكذا  – لا يثبت على رواية واحدة – تركه .
وقد حدث عن هؤلاء الذين تركهم يحيى بن سعيد القطان عبد الله بن المبارك ، ووكيع بن الجراح ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وغيرهم من الأئمة ) .

* أقسام الرواة وأحكامها *
إعلم أن الرواة أقسام :
فمنهم : من يتهم بالكذب .
ومنهم : من غلب حديثه المناكير ، لغفلته وسوء حفظه . وقد سبق ذكر هذين القسمين ، وحكم الرواية عنهما .
وقسم ثالث : أهل صدق وحفظ ، ويندر الخطأ والوهم في حديثهم أو يقل ، وهؤلاء هم الثقات المتفق على الاحتجاج بهم .
وقسم رابع : وهم أيضاً أهل صدق وحفظ :
ولكن يقع الوهم في حديثهم كثيراً ، لكن ليس هو الغالب عليهم وهذا هو القسم الذي ذكره الترمذي ههنا ، وذكر عن يحيى بن سعيد القطان أنه ترك حديث هذه الطبقة .
وعن ابن المبارك وابن مهدي ووكيع وغيرهم أنهم حدثوا عنهم ، وهو أيضاً رأي سفيان وأكثر أهل الحديث المصنفين منهم في السنن والصحاح ، كمسلم بن الحجاج وغيره ، فإنه ذكر في مقدمة كتابه : أنه لا يخرج حديث من هو متهم عند أهل الحديث أو عند أكثرهم ، ولا من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط ، وذكر قبل ذلك أنه يخرج حديث أهل الحفظ والاتقان وأنهم على ضربين :
أحدهما : من لم يوجد في حديثه اختلاف شديد ولا تخليط فاحش .
والثاني : من هو دونهم في الحفظ والاتقان ، ويشملهم اسم الصدق والستر وتعاطي العلم ، كعطاء بن السائب ، ويزيد بن أبي زياد ، وليث بن أبي سليم .
فقيل : إنه أدركته المنية قبل تخريج حديث هؤلاء ، وقيل : إنه خرج لهم في المتابعات ، وذلك كان مراده .
وعلى هذا المنوال نسج أبو داود والنسائي والترمذي ، مع أنه خرّج لبعض من هو دون هؤلاء ، وبين ذلك ولم يسكت عنه .
وإلى طريقة يحيى بن سعيد يميل عليّ بن المديني وصاحبه البخاري ، وكان علي بن المديني – فيما نقله عنه يعقوب بن شيبة – لا يترك حديث رجل حتى يجتمع على تركه ابن مهدي ويحيى القطان ، فإن حدث عنه أحدهما وتركه الآخر حدث عنه .
* الغلط الذي يرد به الراوي أو يترك *
قال أحمد بن سنان : (( كان ابن مهدي لا يترك حديث رجل إلا رجلاً متهماً بالكذب أو رجلاً الغالب عليه الغلط )) .
وقال أبو موسى محمد بن المثنى سمعت ابن مهدي يقول : (( الناس ثلاثة : رجل حافظ متقن ، فهذا لا يختلف فيه ، وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة فهذا لا يترك حديثه ، وآخر يهم – والغالب على حديثه الوهم – فهذا يترك حديثه )) .
وقال أبو بكر بن خلاد سمعت ابن مهدي يقول : (( ثلاثة لا يؤخذ عنهم : المتهم بالكذب ، وصاحب بدعة يدعو إلى بدعته ، والرجل الغالي عليه الوهم والغلط )) .
وقال إسحاق بن عيسى : سمعت ابن المبارك يقول : (( يكتب الحديث إلا عن أربعة : غلاّط لا يرجع ، وكذاب ، وصاحب هوى يدعو إلى بدعته ، ورجل لا يحفظ فيحدث من حفظه )) .
وقال الوليد بن شجاع سمعت الأشجعي يذكر عن سفيان الثوري قال : (( ليس يكاد يفلت من الغلط أحد : إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ وإن غلط ، وإذا كان الغالب عليه الغلط ترك )) .
وقال الحسين بن منصور أبو علي السلمي النيسابوري : سئل أحمد عمن يكتبه حديثه ؟ فقال : (( عن الناس كلهم إلا عن ثلاثة : صاحب هوى يدعو إليه ، أو كذاب ، أو رجل يغلط في الحديث فيرد عليه فلا يقبل )) .
وقال الربيع بن سليمان قال الشافعي : (( من كثر غلطه من المحدثين – ولم يكن له أصل كتاب صحيح – لم يقبل حديثه ، كما يكون من أكثر الغلط في الشهادة لم تقبل شهادته )) . وكذا ذكر الحميدي ، وهذا قد يكون موافقاً لقول يحيى بن سعيد ومن تابعه .
وروى نعيم بن حماد ابن مهدي قال : سئل شعبة حديث من يترك ؟ قال : (( من يكذب في الحديث ، ومن يكثر الغلط ، ومن يخطئ في حديث مجتمع عليه فيقيم على غلطه ولا يرجع ، ومن روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون )) .
وذكر أبو حاتم الرازي نا سليمان بن أحمد الدمشقي قال : قلت لعبد الرحمن بن مهدي : (( أكتب عمن يغلط في عشرة ؟ قال : نعم ، قيل له : يغلط في عشرين ؟ قال : نعم ، قيل له : فثلاثين ؟ قال : نعم ، قيل له : فخمسين ؟ قال : نعم )) .
وقال حمزة السهمي : سألت الدار قطني عمن يكون كثير الخطأ قال : (( إن نبهوه عليه ورجع عنه فلا يسقط ، وإن لم يرجع سقط )) . خرج ذلك كله أبو بكر الخطيب في كتاب الكفاية .
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبي عن أحمد الدورقي نا ابن مهدي قال : قيل لشعبة : متى يترك حديث الرجل ؟ قال : (( إذا حدث عن المعروفين ما لا يعرف المعروفون ، وإذا أكثر الغلط ، وإذا اتهم بالكذب ، وإذا روى حديثاً غلطاً مجتمعاً عليه فلم يتهم نفسه فيتركه طرح حديثه . وما كان غير ذلك فارووا عنه )) .
قال : ونا أبي سليمان بن أحمد الدمشقي قال قلت لابن مهدي : (( أكتب عمن يغلط في مائة ؟ قال : لا ، مائة كثير )) .
وهذه الرواية عن ابن مهدي توافق قول شعبة ويحيى والشافعي : إن كثرة الغلط ترد به الرواية . وتخالف رواية ابن المثنى وأحمد بن سنان عنه : إن الاعتبار في ذلك بالأغلب ، وكلام الإمام أحمد يدل على مثل قول ابن المبارك ومن وافقه فإنه حدث عن أبي سعيد مولى بني هاشم ، وقد قال فيه : (( كان كثير الخطأ ))،ولم يترك حديثه،وحدث عن زيد بن الخباب ، وقال فيه : ((كان كثير الخطأ)) .
وقال أبو عثمان البرذعي : نا محمد بن يحيى النيسابوري قال : (( قلت لأحمد بن حنبل في علي بن عاصم ، وذكرت له خطأه ؟ فقال لي أحمد : (( كان حماد بن سلمة يخطئ – وأوما أحمد بيده – خطأ كثيراً ولم ير بالرواية عنه بأساً )) .
وقال إسحاق بن منصور : قلت لأحمد : متى يترك حديث الرجل ؟ قال : (( إذا كان الغالب عليه الخطأ )) .
وكلام الترمذي هاهنا يحتمل مثل قول شعبة ويحيى ومن وافقهما ، حيث ذكر : (( أن من كان مغفلاً يخطئ الكثير فإنه لا يشتغل بالرواية عنه ، عند أكثر أهل الحديث )) .
وذكر أيضاً قبل ذلك أن من ضعف لغفلته وكثرة خطئه لا يحتج بحديثه ، فلم يعتبر إلا كثرة الخطأ . ويحتمل أن يكون مراده سقوط حديث من جمع بين الوصفين معاً : الغفلة وكثرة الخطأ دون من كان فيه أحدهما ، أما الغفلة المجردة مع قلة الخطأ ، أو كثرة الخطأ لسوء دون الغفلة ، ويكون ذلك قولاً ثالثاً في المسألة ، والله أعلم .

*     *     *











* تراجم طائفة من جلة أهل الحديث *
تكلم فيه من جهة حفظهم

وأما محمد بن عمرو :
الذي تكلم فيه يحيى ، فهو : محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي . وقد تكلم فيه يحيى ومالك ، وقال أحمد : (( كان محمد بن عمرو يحدث بأحاديث فيرسلها ويسندها لأقوام آخرين .
قال : وهو مضطرب الحديث ، والعلاء أحب إلىّ منه )) .
وقال ابن أبي خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول : (( ما زال الناس يتقون حديث محمد بن عمرو ، قيل له : ما علة ذلك ؟ قال : كان مرة يحدث عن أبي سلمة بالشئ رأيه ، ثم يحدث به مرة أخرى عن سلمة عن أبي هريرة )) . ووثقه ابن معين في رواية أخرى ، ونقل إسحاق بن حكيم عن يحيى القطان أنه قال فيه : (( رجل صالح ، ليس بأحفظ الناس للحديث )) .
وقد ذكر الترمذي : أن يحيى بن سعيد روى عنه ، وكذلك روى عنه مالك في الموطأ ، وخرج حديثه مسلم متابعة ، وخرجه البخاري مقروناً .
وقد قال يحيى بن سعيد : (( هو فوق سهيل بن أبي صالح )) . وخالفه الإمام أحمد ، وقال : (( ليس كما قال يحيى . قال أحمد : ولم يرو شعبة عن محمد بن عمرو إلا حديثاً واحداً )) .

وأما عبد الرحمن بن حرملة :
الذي ذكر يحيى القطان أن محمد بن عمرو فوقه فهو مديني ، كان القطان يضعفه ولا يرضاه .
وقال ابن المديني : (( راددت يحيى في ابن حرملة فقال : ليس هو عندي مثل يحيى بن سعيد الأنصاري ، قال : سمعت سعيد بن المسيب . قال يحيى : لو شئت أن ألقنه أشياء [ قال ] قلت : كان يلقن ؟ قال : نعم )) .
وقال أحمد ابن حرملة : (( هو كذا وكذا يضعفه )) . وقال ابن معين : لا بأس به ، قيل له : يقولون : سمع من ابن المسيب وهو  صغير ، قال : لا . وذكر ابن أبي خيثمة عن ابن معين عن يحيى عن ابن حرملة قال : (( كنت سئ الحفظ ، فسألت سعيد بن المسيب فرخص لي في الكتاب .
وأما شريك فهو ابن عبد الله النخعي :
قاضي الكوفة ، وكان كثير الوهم ، ولا سيما بعد أن ولي القضاء وكان فيه أيضاً في تلك الحال تيه وكبر ، واحتقار للأئمة والصالحين . وقد خرج حديثه مسلم مقروناً بغيره .
ومن الأوهام المتعلقة بترجمته أن مسلماً ذكر في الكتاب الكنى أن أحمد سمع منه ، وهو وهم ، لم يسمع منه أحمد ، وإنما سمع من أصحابه .
وأما أبو بكر بن عياش :
فهو المقرئ الكوفي ، وهو رجل صالح ، لكنه كثير الوهم ، ومع هذا فقد خرج البخاري حديثه ، وأنكر عليه ابن حبان تخريج حديثه وتركه لحماد بن سلمة .
وأما الربيع بن صبيح
ومبارك بن فضالة :
فلم يخرّج لهما في الصحيح . وقد وثق المبارك عفان ، وأبو زرعة ، وغيرهما .
وقال شعبة : (( هو أحب إلىّ من الربيع ، وسوى ابن معين بينهما في الضعف .
وقال أحمد : (( ما أقربهما )) ، وقال مرة : (( مبارك أحب إلىّ إذا قال : سمعت الحسن )) ، يشير إلى أنه يدلس ، .
وقال نعيم : (( كان ابن مهدي لا يكتب للمبارك شيئاً إلا شيئاً يقول فيه : سمعت الحسن )) .
وقال الفلاس : (( كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن مبارك )) .
وقال ابن معين : (( لم يرو عنه يحيى )) .
وقال أحمد : (( تركه عبد الرحمن لأنه كان يروي أقاويل الحسن يأخذها من الناس ، قال : وكان عبد الرحمن يروي عن الربيع بن صبيح ، وكان الربيع رجلاً صالحاً .
قال الفلاس : (( كان عبد الرحمن يحدث عن الربيع ، وكان يحيى لا يحدث عنه )) .
*     *     *
قال أبو عيسى رحمه الله :
( وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي صالح ، ومحمد بن إسحاق ، وحماد بن سلمة ، ومحمد بن عجلان .
وأشباه هؤلاء من الأئمة إنما تكلموا فيهم من قبل حفظهم في بعض ما رووا ، وقد حدث عنهم الأئمة
حدثنا الحسن بن علي الحلو ثنا علي بن المديني قال : قال لنا سفيان بن عيينة ، كنا نعد سهيل بن أبي صالح ثبتاً في الحديث .
وحدثنا ابن أبي عمر قال قال سفيان بن عيينة : (( كان محمد بن عجلان ثقة مأموناً في الحديث )) .
قال أبو عيسى : وإنما تكلم يحيى بن سعيد القطان عندنا في رواية محمد بن عجلان عن سعيد المقبري:
حدثنا أبوبكر عن علي بن عبد الله قال قال يحيى بن سعيد قال محمد بن عجلان : (( أحاديث سعيد المقبري بعضها عن سعيد عن أبي هريرة ، وبعضها عن سعيد عن رجل عن أبي هريرة ، فاختلطت عليّ قصيرتها عن سعيد عن أبي هريرة .
وإنما تكلم يحيى بن سعيد عندنا في ابن عجلان لهذا . وقد روى يحيى عن ابن عجلان الكثير ) .
وأما سهيل بن أبي صالح السمان :
فقد تكلم فيه جماعة من الأئمة ، قال أبي خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول : (( لم يزل أصحاب الحديث يتقون حديث سهيل )) ، قال : وسئل ابن معين مرة أخرى عن سهيل ؟ فقال : (( ليس بذاك )) ، وسئل مرة أخرى ؟ فقال : (( سهيل ضعيف )) .
وحكى عباس الدوري قال : سئل يحيى بن معين عن حديث سهيل والعلاء بن عبد الرحمن ؟ فقال : حديثهما قريب من السواء ، وليس حديثهما بالحجة )) ، قال : وسمعت يحيى يقول : (( سهيل صويلح وفيه لين . قال : ومحمد بن عمرو أكبر من هؤلاء )) . يعني من سهيل والعلاء ، وعاصم بن عبيد الله ، وابن عقيل .
وقد سبق قول يحيى بن سعيد : إن محمد بن عمرو أعلى من سهيل ، وأنكر ذلك عليه أحمد وقال : (( لم يكن ليحيى بسهيل علم ، وكان قد جالس محمد بن عمرو ، قال : وسهيل صالح . وقال أيضاً : (( لم يصنع يحيى شيئاً ، الناس عندهم سهيل ليس مثل محمد بن عمرو )) . فقيل له : (( سهيل عندهم أثبت ؟ )) قال : (( نعم )) .
وقال أحمد أيضاً : (( سهيل ما أصلح حديثه . قال : والعلاء بن عبد الرحمن عندي فوق سهيل ، وفوق محمد بن عمرو )) .
وقال عبد الله : سألت أبي عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه ، وعن سهيل عن أبيه ؟ فقال : (( ما سمعت أحداً يذكر العلاء إلا بخير )) ، وقدم أبا صالح على العلاء ، كذا في المسند ، وإنما كان السؤال عن سهيل لا عن أبيه !
وقد ذكر الترمذي هنا عن ابن عيينة أنه قال : (( كنا نعد سهيلاً ثبتاً في الحديث )) .
وقال ابن معين في رواية عباس في موضع آخر عنه : (( سهيل ثقة )) . ووثقه العجلي وقال النسائي : (( ليس به بأس )) .
وقال ابن عدي : (( هو عندي ثبت لا بأس به ، مقبول الأخبار )) .
قال أبو زرعة : (( سهيل أشبه وأشهر من العلاء بن عبد الرحمن )) .
وقال أبو حاتم : ( هو أحب إلىّ من أبي العلاء ، وأحب إلى من عمرو بن أبي عمرو ، ويكتب حديثه ولا يحتج به )) .
وقد روى عنه الأئمة : مالك ، وشعبة ، والثوري .
وخرّج له مسلم في صحيحه والبخاري مقروناً بغيره .
وأما محمد بن عجلان المدني الفقيه الصالح :
فقد روى عنه شعبة ومالك والقطان وخلق ، وقد وثقه ابن عيينة وأحمد وابن معين ،وخرج مسلم حديثه مقروناً .
وتكلم جماعة في حفظه :
قال ابن أبي خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول : (( كان يحيى بن سعيد لا يرضى محمد بن عجلان . قال : وسمعت يحيى بن سعيد يقول : (( لو جرّبت من أروى عنه لم أرو إلا عن قليل ! )) .
قال : وفي كتاب علي بن المديني قال يحيى بن سعيد : (( قال ابن عجلان : كان سعيد المقبري يحدث عن أبيه عن أبي هريرة ، وعن رجل عن أبي هريرة ، فاختلط عليّ فجعلته عن أبي هريرة ، قال يحيى : سمعته منه أو حدثته عنه ، ولا أعلم إلا أني سمعته منه )) .
وقال أحمد : (( كان ثقة إلا أنه اختلط عليه حديث المقبري : كان عن رجل ، جعل يصيره عن أبي هريرة )) .
وقال ابن عيينة : (( حدثنا محمد بن عجلان وكان ثقة )) .
وروى أبو بكر بن خلاد عن يحيى بن سعيد قال : (( كان ابن عجلان مضطرب الحديث في حديث نافع )) ، ولم يكن له تلك القيمة عنده .
وروى محمد الرامهرمزي في كتابه من طريق يحيى بن سعيد : (( قدمت الكوفة وبها ابن عجلان ، وبها من يطلب الحديث : مليح بن وكيع ، وحفص بن غياث ، وعبد الله بن إدريس ، ويوسف بن خالد السمتي . قلنا : نأتي ابن عجلان ؟ فقال يوسف بن خالد : نقلب على هذا الشيخ حديثه نتظر فهمه ؟ قال : فقلبوا ، فجعلوا ما كان عن سعيد عن أبيه ، وما كان عن أبيه عن سعيد ، ثم جئنا إليه ، لكن ابن إدريس تورّع وجلس بالباب ، وقال : لا أستحل ، وجلست معه .
ودخل حفص ويوسف بن خالد ومليح ، فسألوه ، فمر فيها ، فلما كان عند آخر الكتاب انتبه الشيخ ، فقال : أعد العرض ، فعرض عليه ، فقال : ما سألتموني عن أبي ؟ فقد حدثني به سعيد ، وما سألتموني عن سعيد ؟ فقد حدثني به أبي .
ثم أقبل على يوسف بن خالد فقال : إن كنت أردت شيني وعيبي فسلبك الله الإسلام ! وأقبل على حفص : فقال : ابتلاك في دينك ودنياك ! ، وأقبل عني مليح فقال : لا نفعك الله بعلمك !
قال يحيى : فمات مليح ولم ينتفع به ، وابتلى حفص في بدنه بالفالج ، وبالقضاء في دينه ! ولم يمت يوسف حتى اتهم بالزندقة !! )) .
وأما محمد بن إسحاق بن يسار :
صاحب المغازي ، فيطول ذكر ترجمته على وجهها ، وقد وثقه جماعة .
قال أحمد : (( هو حسن الحديث )) ، وقال مرة : (( يكتب من حديثه هذه الأحاديث )) ، كأنه يعني المغازي . وقال مرة : (( هو صالح الحديث واحتج به أنا أيضاً )) .
وقال ابن عيينة : (( ما سمعت أحداً يتكلم في محمد بن إسحاق إلا في قوله في القدر )) . وقال ابن المديني : (( حديثه عندي صحيح )) ، وقال ابن معين [ مرة ] : (( هو ثقة وليس بحجة )) .
وتكلم فيه آخرون ، وكان يحيى بن سعيد شديد الحمل عليه ، وكان لا يحدث عنه ، ذكره عنه الإمام أحمد وقال : (( ما رأيت يحيى أسوأ رأياً منه في محمد بن إسحاق وليث وهمام لا يستطيع أحد أن يراجعه فيهم )) .
وكان ابن مهدي يحدث عن رجل عنه . وكذبه مالك ، وهشام ابن عروة ، والأعمش .
ولا ريب أنه كان يتهم بأنواع من البدع : من التشيع والقدر وغيرهما ، وكان يدلس عن غير الثقات ، وربما دلس عن أهل الكتاب ما يأخذه عنهم من الأخبار . قال أحمد : (( هو كثير التدليس جداً )) . قيل له : فإذا قال : لنا أو أنا فهو ثقة ؟ قال : (( هو يقول : أخبرني فيخاف )) ، يشير إلى أنه يصرح بالتحديث والإخبار ويخالف الناس في حديثه مع ذلك .
وقال الجوزجاني : (( يمضغ حديث الزهري بمنطقة حتى يعرف من رسخ في علمه أنه خلاف راويه أصحابه عنه )) .
وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري ، وشعبة والحمادان ، والسفيانان ، وخلق . وخرج مسلم حديثه مقروناً بغيره .
وأما حماد بن سلمة :
فهو أرفع من هؤلاء كلهم ، وهو الإمام الرباني ، العالم بالله والعالم بأمر الله أبو سلمة : حماد بن سلمة البصري الفقيه الزاهد العابد .
وقد روى عنه الأئمة الكبار ، مثل : يحيى القطان ، وابن مهدي ، وابن المبارك ، ومالك ، والثوري ، وهما من أقرانه ، وشعبة ، وهو أسن منه .
وهو ثقة ثقة ، من أصلب الناس في السنة ، ولذلك قال ابن معي : (( من ذكره بسوء فاتهمه على الإسلام )) . وأثنى عليه الأئمة ثناء عظيماً .
وفصل القول في رواياته أنه من أثبت الناس في بعض شيوخه الذين لزمهم كثابت البناني وعلي بن زيد ، ويضطرب في بعضهم الذين لم يكثر ملازمتهم كقتادة وأيوب وغيرهما ، وسنذكر ذلك مستوفى فيما بعد إن شاء الله تعالى .
وقد خرّج له مسلم الكثير في صحيحه ، واستشهد به البخاري . وقيل : إنه خرج له حديثاً واحداً في الرقاق .
وأنكر ابن حبان ذلك عليه فقال : (( لم ينصف من جانب حديث حماد بن سلمة واحتج أبو بكر بن عياش في كتابه ، وبابن أخي الزهري وبعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، فإن كان تركه إياه لما كان يخطئ فغيره من أقرانه مثل الثوري وشعبة وذويهما كانوا يخطئون .
فإن زعم أن خطأه قد كثر من تغير حفظه ، فقد كان ذلك في أبي بكر بن عياش موجوداً ، وأنى يبلغ أبو بكر حماد ابن سلمة ؟ في إتقانه ؟ أم في جمعه ؟ أو في ضبطه ؟ ، ولم يكن من أقران حماد بن سلمة بالبصرة مثله في الفضل والدين والنسك والعلم والكتبة والجمع والصلابة في السنة والقمع لأهل البدع ، ولم يكن يثلبه في أيامه إلا معتزلي قدري أو مبتدعي جهمي ، لما كان يظهر من السنن الصحيحة التي تنكرها المعتزلة )) .

*     *     *
قال أبو عيسى رحمه الله
( وهكذا من تكلم في ابن أبي ليلى ، إنما تكلم فيه من قبل حفظه .
قال علي : قال يحيى بن سعيد القطان : (( روى شعبة عن ابن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في العطاس .
قال يحيى : ثم لقيت ابن أبي ليلى فحدثنا عن أخيه عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) .
قال أبو عيسى : (( ويروى عن ابن أبي ليلى نحو هذا غير شي ، وكان يروي الشئ مرة هكذا ومرة هكذا بغير الإسناد ، وإنما جاء هذا من قبل حفظه ، لأن أكثر من مضى من أهل العلم كانوا لا يكتبون ، ومن كتب منهم إنما كان يكتب بعد السماع .
قال : وسعمت أحمد بن الحسن يقول : سمعت أحمد بن حنبل يقول : (( ابن أبي ليلى لا يحتج به )) .
قال أبو عيسى : وكذلك من تكلم  من أهل العلم في مجالد بن سعيد وعبد الله بن ليهعة وغيرهما ، إنما تكلموا فيهم من قبل حفظهم وكثرة خطئهم ، وقد روى عنهم غير واحد من الأئمة .
فإذا انفرد واحد من هؤلاء بحديث – ولم يتابع عليه – لم يحتج به ، كما قال أحمد بن حنبل : (( ابن أبي ليلى لا يحتج به )) إنما عنى إذا انفرد بالشئ ، وأشد ما يكون في هذا إذا لم يحفظ الإسناد ، فزاد في الإسناد أو نقص ، أو غير الإسناد ، أو جاء بما يتغير فيه المعنى ) .
أما ابن أبي ليلى :
فهو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى – قاضي الكوفة ، [و] كان من جلة الفقهاء المعتبرين ، وله حديث كثير ، وهو صدوق ، لا يتهم بتعمد الكذب ، ولكنه كان سئ الحفظ جداً .
قال أبو داود الطيالسي : قال شعبة : (( أفادني محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أحاديث فإذا هي مقلوبة )) .
وقال علي بن المديني سمعت يحيى يقول (( كان ابن أبي ليلى سئ الحفظ ، . وقال أحمد : (( هو مضطرب الحديث جداً سئ الحفظ )) ، وقال : (( لا يحتج بحديثه )) .
وذكر إبراهيم بن سعيد عن يحيى بن معين : قال : (( كان يحي بن سعيد لا يحدث عن أبي ليلى ما روى عن عطاء )) .
قال ابن معين : (( ابن أبي ليلى ضعيف في روايته )) .
قال إبراهيم : (( وكان أحمد بن حنبل لا يحدث عنه )) .
وقال أحمد بن حفص السعدي عن أحمد بن حنبل : (( ابن أبي ليلى ضعيف )) وعن عطاء أكثره خطأ )) .
وقال العجلي : (( كان صدوقاً جائز الحديث )) .
وأما حديث العطاس الذي ذكر الترمذي أن ابن أبي ليلى اضطرب فيه – فقد خرجه الترمذي أيضاً في كتاب الأدب في باب كيف يشمت العاطس ، وسبق الكلام عليه هناك مستوفى .
وذكر الترمذي أنه يروى عن ابن أبي ليلى نحو هذا غير شئ ، وهو كما قال . وقد سبق له حديث في أبواب الدعاء في أبواب الذكر عن الصباح والمساء . وسبق له حديث آخر في القنوت في كتاب الصلاة ، وحديث آخر في التيمم في آخر كتاب الطهارة .
وأما مجالد بت سعيد الهمداني الكوفي :
فليس هو بالحافظ أيضاً قد ضعفه غير واحد :
قال يحيى بن سعيد : (( لو شئت أن يجعلها لي مجالد كلها عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله فعل )) ، يشير إلى أنه كان يقبل التلقين .
وضعفه أحمد وقال : (( كم من أعجوبة مجالد )) ، وقال مرة : (( هو يزيد في الأسانيد )) ، وقال مرة : (( ليس بشئ ، يرفع حديثاً كثيراً لا يرفعه الناس ، وقد احتماه الناس )) .
وضعفه يحيى بن معين وقال : (( لا يحتج به )) ، وقال مرة : (( صالح )) . وقال النسائي : (( ليس بالقوي )) وقال مرة : (( ثقة )) .
وقال ابن حبان : (( يقلب الأسانيد ، ويرفع المراسيل ، لا يجوز الاحتجاج به )) . وقال ابن عدي : (( عامة ما يرويه غير محفوظ )) .
وقال الدار قطني : (( ليس بثقة ، يزيد بن أبي زياد أرجح منه ، ومجالد لا يعتبر به )) .
وخرج له مسلم مقروناً ، وكان يحيى بن سعيد يحدث عنه . وحديث ابن مهدي عن رجل عنه .
وأما ابن ليهعة :
فهو عبد الله بن ليهعة بن عقبة : قاضي مصر ، وهو كثير الاضطراب ، وكان يحيى بن سعيد يضعفه ولا يراه شيئاً . وقد اختلف الأئمة في أمره :
فمنهم من قال : (( حديثه في أول عمره قبل احتراق كتبه أصح )) .وقد سمع منه قبل احتراق كتبه ابن المبارك والمقرئ ، كذا قال الفلاس وغيره . وقالخ ابن معين في رواية عنه .
ومنهم من قال : (( حديثه في عمره كله واحد ، وهو ضعيف )) ، وهو المشهور عن يحيى بن معين ، وأنكر أن تكون كتبه احترقت ، وقال : (( لا يحتج به )) .
وقال أبو زرعة : (( سماع الأوائل والأواخر منه سواء ، إلا أن ابن وهب وابن المبارك كانا يتبعان أصوله ، وليس ممن يحتج به )) .
وقال ابن مهدي : (( ما أعتد بشئ سمعته من حديث ابن ليهعة إلا سماع ابن المبارك ونحوه )) .
وقال مرة : (( لا أحمل عن ابن ليهعة قليلاً ولا كثيراً ، ثال قال : كتب إلىّ ابن ليهعة كتاباً فيه : ثنا عمرو بن شعيب . قال أبو عبد الرحمن : فقرأته على ابن المبارك ، فأخرجه إلىّ ابن المبارك من كتابه عن ابن ليهعة قال : أخبرني إسحاق بن أبي فروه عن عمرو بن شعيب )) .
وقال أحمد : (( كان ابن ليهعة يحدث عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب ، وكان بعد يحدث بها عن عمرو بن شعيب نفسه )) .
وقال أيضاً : (( حديث ابن ليهعة بحجة ، وأني لأكتب كثيراً مما أكتب أعتبر به ، وهو يقوى بعضه ببعض )) .
وروى عن أحمد أنه قال : (( سماع العبادلة من ابن ليهعة عندي صالح : عبد الله بن وهب ، وعبد الله بن يزيد المقرئ ، وعبد الله ابن المبارك )) .
وقال ابن حبان : (( سبرت أخباره فرأيته يدلس على أقوام ضعفاء على أقوام ثقات قد رآهم ، ثم كان لا يبالي ، ما دفع إليه قرأه ، سواء كان من حديثه أو لم بكن من حديثه ! فوجب التنكيب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه ، لما فيها من الأخبار المدلسة عن المتروكين ، ووجب ترك الاحتجاج ( برواية المتأخرين بعد احتراق كتبه ، لما فيها مما ليس من حديثه )) ) :
ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود عن أحمد قال : (( من كان مثل ابن ليهعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه ؟! )) ، وكذا نقله النسائي عن أبي داود عن أحمد .
وذكر جعفر الفرياني عن بعض أصحابه عن قتيبة قال : قال لي أحمد : (( أحاديثك عن ابن ليهعة صحاح ! لأنا كنا نكتب من كتاب عبد الله بن وهب ، ثم نسمعه من ابن ليهعة )) .
وقال الثوري : (( عندي ابن ليهعة الأصول ، وعندنا الفروع )) .
وكان ابن وهب يقول : (( حدثني – والله – الصادق البار : عبد الله بن ليهعة )) .
وأثنى عليه أحمد بن صالح المصري وقال :(( هو صحيح الكتاب ، فمن ضبط عنه من إملائه من كتابه فحديثه صحيح ، قال وأنا أذهب إاى أنه لا يترك محدث حتى يجتمع أهل صرة على ترك حديثه ))
قال ابن عدي : (( هو حسن الحديث يكتب حديثه )) .
وقد حدث عنه الثقات : الثوري ، وشعبة ، ومالك ، وعمرو بن الحارث والليث بن سعد .
خرّج مسلم حديثه مقروناً بعمرو بن الحارث . وأما البخاري والنسائي فإذا ذكر إسناداً فيه ابن ليهعة وغيره سميا ذلك الغير ، وكنيها عن اسم ابن ليهعة ولم يسميا .
وممن يضطرب في حديثه أيضاً :
شهر بن حوشب
وهو يروي المتن الواحد بأسانيد متعددة .
ومنهم : ليث بن أبي سليم .
ويزيد بن أبي زياد الكوفي .
ومنهم : عبد الملك بن عمير .
على أن حديثه مخرج في الصحيحين .
وقال أحمد : (( هو مضطرب الحديث جداً ، وهو أشد اضطراباً من سماك )) .
وممن يضطرب في حديثه : سماك .
وعاصم بن بهدلة .
وقد ذكر الترمذي أن هؤلاء وأمثالهم ممن تكلم فيه من قبل حفظه وكثرة خطئه لا يحتج بحديث أحد منهم إنما انفرد ، يعني في الأحكام الشرعية والأمور العلمية ، وأن أشد ما يكون ذلك إذا اضطرب أحدهم في الإسناد فزاد فيه أو نقص ، أو غير الإسناد ، أو غيّر المتن تغيراً يتغير به المعنى .
ومثال ذلك : حديث واحد رواه ابن ليهعة فزاد في إسناده على الناس ، ورواه أيضاً بغير الإسناد الذي رواه به الناس ، ورواه بمعنى غير معنى حديث الناس :
روى الليث بن سعد وعمرو بن الحارث وعبد الحميد بن جعفر كلهم عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحارث بن حزء قال : (( أنا أول من سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : (( لا يبول أحدكم مستقبل القبلة . وأنا أول من حدث الناس بذلك )) .
وفي رواية الليث بن سعد وغيره عن يزيد [ بن أبي حبيب ] أنه سمع عبد الله بن الحارث يذكره . ورواه ابن ليهعة عن يزيد ابن أبي حبيب عن جبلة لن نافع عن عبد الله بن الحارث ، ( فزاد رجلاً في إسناده رجلاً . ورواه أيضاً عن عبد الله بن الحارث بن حزء سليمان بن زياد الحضرمي وسهيل بن ثعلبة .
وقد رواه عن سليمان بن زياد غير واحد ، منهم ابن ليهعة ، وانفرد ابن ليهعة فرواه عن عبيد الله بن المغيرة عن عبد البه بن الحارث بن جزء قال : (( رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبول مستقبل القبلة . وأنا أول من حدث الناس بذلك )) . وهذا اللفظ خطأ تفرد به ابن ليهعة وخالف رواية الناس كلهم .
وقد روى مسلم في مقدمة كتابه عن الحسن الحلواني سمعت يزيد بن هارون ، وذكر زياد بن ميمون فقال : (( حلفت أن لا أروي عنه شيئاً ، لقيته فسألته عن حديث ، فحدثني به عن بكر المزني ، ثم عدت إليه فحدثني به عن مورق ، ثم عدت إليه فحدثني به عن الحسن )) . فكان ينسبه إلى الكذب . انتهى .
فاختلاف الرجل الواحد في إسناد :
إن كان متهماً فإنه ينسب به إلى الكذب .
وإن كان سئ الحفظ نسب به إلى الاضطراب وعدم الضبط . وإنما يحتمل مثل ذلك ممن كثر حديثه وقوي حفظه ، كالزهري وشعبة ونحوهما .
وقد كان عكرمة يتهم في روايته الحديث عن رجل ثم يرويه عن آخر ، حتى ظهر لهم سعة علمه وكثرة حديثه ، ذكر معنى ذلك ابن ليهعة عن ابن هبيرة وأبي الأسود عن إسماعيل بن عبيد الأنصاري ، وكان من أصحاب ابن عباس .

*     *     *

* فصل في الرواية بالمعنى *
قال الترمذي رحمه الله تعالى :
( فأما من أقام الإسناد وحفظه وغير اللفظ فإن هذا واسع عند أهل العلم ، إذا لم يتغير به المعنى .
ثنا محمد بن بشار ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن مكحول عن وائلة بن الأسقع قال : (( إذا حدثناكم على المعنى فحسبكم )) .
ثنا يحيى بن موسى أنا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين قال : (( كنت أسمنع من عشرة اللفظ مختلف والمعنى واحد )) .
ثنا أحمد بن منيع ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن ابن عون قال : (( كان إبراهيم النخعي والحسن والشعبي يأتون بالحديث على المعاني ، وكان القاسم بن محمد ومحمد بن سيرين ورجاء بن حيوة يقيدون الحديث على حروفه )) .
ثنا عليّ بن خشرم ثنا حفص بن غياث عن عاصم الأحول قال : قلت لأبي عثمان النهدي : إنك تحدثنا بالحديث . ثم تحدثنا به على غير ما حدثتنا ؟! قال : (( عليك بالسماع الأول )) .
قال : حدثنا الجارود بن معاذ ثنا وكيع عن الربيع بن صبيح عن الحسن قال : (( إذا أصبت المعنى أجزأك )) .
ثنا علي بن حجر أنا عبد الله بن المبارك عن سيف هو ابن سليمان قال : سمعت مجاهداً يقول : (( انقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه )) .
ثنا أبو عمار الحسين بن حريث أنا زيد بن حباب عن رجل قال : خرج إلينا سفيان الثوري فقال : (( إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني ، إنما هو المعنى )) .
ثنا الحسين بن حريث قال سمعت وكيعاً يقول : (( إن لم يكن واسعاً فقد هلك الناس )) ) .
حديث وائلة [ بن الأسقع ] الموقوف ذكره في تاريخه ، وذكر أن أبا نعيم النخعي رواه عن العلاء بن كثير عن مكحول عن وائلة مرفوعاً . قال : (( ولا يصح ، والعلاء بن كثير منكر الحديث )) .
[و] مقصود الترمذي رحمه الله بهذا الفصل الذي ذكره ههنا أن من أقام الأسانيد وحفظها وغيّر المتون تغيراً لا يغير المعنى أنه حافظ ثقة يعتبر بحديثه ، وبنى ذلك على أن رواية الحديث بالمعنى جائزة ، وحكاه عن أهل العلم .
وكلامه يشعر بأنه إجماع ، وليس كذلك ، بل هو قول كثير من العلماء ، ونص عليه أحمد ، وقال : (( ما زال الحفاظ يحدثون بالمعنى )) .
وإنما يجوز ذلك لمن هو عالم بلغات العرب ، بصيراً بالمعاني ، عالماً بما يحيل المعنى وما لا يحيله ، نص على ذلك الشافعي .
وقد روى كثير من الناس الحديث بمعنى فهموه منه فغيروا المعنى ، مثل ما اختصره بعضهم من حديث عائشة في حيضها في الحج أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لها وهي حائضاً : (( أتقضي رأسك وامتشطي )) وأدخله في أبواب غسل الحيض . وقد أنكر ذلك على من فعله لأنه يخل بالمعنى ، فإن هذا لم تؤمر به في الغسل من الحيض عند النقطاعه ، بل في غسل الحائض إذا أرادت الإحرام وهي حائض .
وروى بعضهم حديث : (( إذا قرأ – يعني الإمام – فأنصتوا )) بما فهمه من المعنى ، فقال : (( إذا قرأ الإمام ولا الضالين فأنصتوا )) ، فحمله على فراغه من القراءة لا على شروعه فيها .
وروى بعضه حديث : (( كنا نؤديه على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) ، يريد زكاة الفطر فصحف (( نؤديه )) فقال : (( نورثه )) ثم فسره من عنده فقال : يعني الجد )) . كل هذا تصرف سئ لا يجوز مثله .
فأما الرواية بلفظ آخر ى يختل به المعنى فهو الذي ذكر الترمذي جوازه عند أهل العلم ، وذكر عمن ذكره من السلف .
وروى عن الحسن أنه استدل بأن الله يقص قصص القرون السابقة بغير لغاتها .
وروى قتادة عن زرارة بم أوفى قال : (( لقيت عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاختلفوا على في اللفظ ، واجتمعوا في المعنى )) .
وقد روى إجازة ذلك أيضاً عن عائشة ، وأبي سعيد الخدري ، وابن عباس ، وفي أسانيدها نظر .
وروى معناه عن ابن مسعود وأبي الدرداء وأنس – أنهم كانوا يحدثون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ثم يقولون : (( أن نحو هذا أو شبهه )) ، وكان يقول أنس : (( أو كما قال )) . وهو أيضاً قول عمرو بن دينار ، وابن أبي نجيح ، وعمرو بم مرة ، وجعفر بن محمد ، وحماد بن زيد ، ويحيى بن سعيد ، ويزيد بن هارون ، وابن عيينة ، وأبي زرعة ، وحكي عن أكثر الفقهاء ، وروى فيها أحاديث مرفوعة لا يصح شئ منها .
وكان ابن عمر رضي الله عنه يشدد لفظ الحديث ، وينهي عن تغير الشئ منه ، كذلك محمد بن سيرين ، والقاسم بن محمد ، ورجاء بن حيوة . وهو قول مالك في حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاصة ، دون حديث غيره ، وروى عنه قال : (( أستحب ذلك )) .
وحكى الإمام أحمد عن وكيع أنه كان يحدث على المعنى ، وأن ابن مهدي كان يتبع الألفاظ ويتعاهدها .
ورخص طائفة في النقص في الحديث للشك فيه ، دون الزيادة ، منهم : مجاهد ، وابن سيرين ، وروى أيضاً عن مالك أنه كان يترك منه كل ما شك فيه .
وقد قال ابن حبان في أوائل كتاب الضعفاء : (( لفظ الحافظ إذا حدث من حفظه وليس بفقيه لا يجوز عندي الاحتجاج بخبره ، لأن الحفاظ الذيم رأيناهم أكثرهم كانوا يحققون الطرق والأسانيد دون المتون ، ولقد كنا نجالسهم برهة من دهرنا على المذاكرة ، ولا آراهم يذكرون من متن الخبر إلا كلمة واحدة يشيرؤون إليها .
وما رأيت على أديم الأرض من كان يحسن صناعة السنن ويحفظ الصحاح بألألفاظها ، ويقوم بزيادة كل لفظة زاد في الخبر ثقة حتى كأن السنن نصب عينيه إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة فقط .
فإذا كان الثقة الحافظ لم يكن بفقيه وحدث من حفظه ربما قلب المتن وغيّر المعنى ، حتى يذهب الخبر عن معنى ما جاء فيه ، ويقلبه إى شئ ليس منه ، وهو لا يعلم . فلا يجوز عندي الاحتجاج بخبر من هذا نعته إلا أن يحدث من كتاب ، أو يوافق الثقات فيما يرويه من متون الأخبار )) . انتهى .
وفيما ذكر نظر ، وما أظنه سبق إليه ، ولو فتح هذا الباب لم يحتج بحديث انفرد به عامة حفاظ المحدثين كالأعمش وغيره ، ولا قائل بذلك .
اللهم إلا أن يعرف من أحد أنه كان لا يقيم متون الأحاديث ، فيتوقف حينئذ فيما انفرد به . فأما هذا الظن فيمن ظهر حفظه وإتقانه فلا يكفي في رد حديثه . والله أعلم .





* تفاضل أهل العلم بالحفظ والاتقان *

قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله :
( وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع ، مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم :
حدثنا محمد بن حميد الرازي ثنا جرير عن عمارة بن القعقاع قال قال لي إبراهيم النخعي : (( إذا حدثتني فحدثني عن أبي زرعة بن عمرو ابن جرير ، فإنه حدثني مرة بحديث ، ثم سألته بعد ذلك بسنين فلم يخرح منه حرفاً )) .
ثنا أبو حفص عمرو بن علي ثنا يحيى بن سعيد القطان عن سعفيان عن منصور قال قلت لإبراهيم النخعي : (( ما لسالم بن أبي الجعد أتمّ حديثاً منك ؟ )) قال : (( لأنه كان يكتب )) .
حدثنا عبد الجبار بن العلاء ثنا سفيان بن عيينة قال : قال عبد الملك بن عمير : (( إني لأحدث الحديث فما أدع منه حرفاً )) .
ثنا الحسين بن مهدي البصري ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن قتادة قال : (( ما سمعت أذناي شيئاً قط إلا وعاه قلبي )) .
حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو ابن دينار قال : (( ما رأيت أحداً أنص للحديث من الزهري )) .
أخبرنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ثنا سفيان بن عيينة قال قال أيوب السختياني : ما علمت أحداً كان أعلم بحديث أهل المدينة بعد الزهري من يحيى بن أبي كثير )) .
حدثنا محمد بن إسماعيل ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد قال : (( كان ابن عون يحدث فإذا حدثته عن أيوب بخلافه تركه . فأثول : قد سمعته ! )) فيقول : إن أيوب أعلمنا بحديث محمد بن سيرين )) .
أخبرنا أبو بكر بن علي بن عبد الله قال قلت ليحيى بن سعيد : (( أيهما أثبت : هشام الدستوائي أو مسعر ؟ قال : (( ما رأيت مثل مسعر )) كان مسعر من أثبت الناس )) .
حدثنا أبو بكر عبد القدوس بن محمد قال : وثنا أبو الوليد قال سمعت حماد بن زيد يقول : (( ما خالفني شعبة في شئ إلا تركته )) .
قال أبو بكر حدثني أبو الوليد قال قال لي حماد بن سلمة : (( إن أردت الحديث فعليك بشعبة )) .
حدثنا عبد بن حميد ثنا أبو داود قال قال شعبة : (( ما رويت عن رجل حديثاً إلا أتيته أكثر من مرة . والذي رويت عنه عشرة مرار ، ( والذي رويت عنه خمسين حديثاً أتيته أكثر من خمسين مرة ) . والذي رويته عنه مائة أتيته أكثر من مائة مرة !! إلا حيان البارقي ، فإني سمعت منه هذه الأحاديث ، ثم عدت إليه فوجدته قد مات )) .
حدثنا محمد بن إسماعيل ثنا عبد الله بن أب الأسود أنا ابن مهدي قال سمعت سمعت سفيان يقول : (( شعبة أمير المؤمنين في الحديث )) .
حدثنا أبو بكر عن علي بن عبد الله قال سمعت يحيى بن سعيد يقول : (( ليس أحد أحب إلىّ من شعبة ، ولا يعدله أحد عندي )) وإذا خالفه سفيان يقول سفيان )) .
قال علي : قلت ليحيى : (( أيهما كان أحفظ للأحاديث الطوال : سفيان أو شعبة ؟ قال : كان شعبة أمر فيها ، قال يحيى : وكان شعبة أعلم بالرجال فلان عن فلان . وكان سفيان صاحب أبواب )) .
حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث قال سمعت وكيعاً يقول : قال شعبة : (( سفيان الثوري أحفظ مني ، ما حدثني سفيان عن شيخ بشئ فسألته إلا وجدته كما حدثني )) .
حدثنا عمرو بن علي قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : (( الأئمة في الحديث أربعة : سفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، والأوزاعي ، وحماد بن زيد )) .
قال أبو عيسى : سمعت إسحاق بن موسى الأنصاري قال : سمعت معن بن عيسى الفزار يقول:(( كان مالك بن أنس يشدد في حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الباء والتاء ونحوهما
أخبرنا أبو موسى حدثني إبراهيم بن عبد الله بن قريم الأنصاري قاضي المدينة قال : (( مرّ مالك بن أنس على أبي حازم وهو جالس فجازه ، فقيل له ؟ قال إني لم أجد وضعاً أجلس فيه ، وكرهت أن آخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنا قائم )) .
أخبر نا أبو بكر عن علي بن عبد الله قال قال يحيى بن سعيد : (( مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلىّ من سفيان الثوري عن إبراهيم النخعء . قال يحيى : ما في القوم أحد أصح حديثاً من مالك بن أنس . كام مالك إماماً في الحديث )) .
سمعت أحمد بن الحسن يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول : (( ما رأيت بعيني مثل يحيى بن سعيد القطان )) .
قال أحمد بن الحسن : (( وسئل أحمد بن حنبل عن وكيع وعبد الرحمن ابن مهدي ؟ )) قال أحمد : (( وكيع أكبر في القلب ، وعبد الرحمن إمام )) .
سمعت محمد بن عمرو بن نبهان بن صفوان الثقفي البصري يقول : سمعت علي بن المديني يقول : (( لو حلفت بين الركن والمقام – لحلفت أني لم أر أحداً أعلم من عبد الرحمن بن مهدي )) .
قال أبو عيسى : والكلام في هذا والرواية عن أهل العلم يكثر وإنما بينا شيئاً منه على الاختصار ليستدل به على منازل أهل العلم ، وتفاضل بعضهم على بعض في الحفظ والاتقان ، ومن تكلم فيه من أهل العلم لأي شئ تكلم فيه )) .

* أقسام الرواة وأحكامها *
قد ذكرنا فيما تقدم أن الرواة ينقسمون أربعة أقسم :
أحدها : من يتهم بالكذب .
والثاني : من لا يتهم لكن الغالب على حديثه الوهم والغلط ، وأن هذين القسمين يترك حديثهم إلا لمجرد معرفته .
والثالث : من هو صادق ويكثر في حديثه الوهم ولا يغلب عليه . وقد ذكرنا الاختلاف في الرواية عنه وتركه .
والرابع : الحفاظ الذي يندر أو يقل الغلط والخطأ في حديثهم ، وهذا القسم المحتج به بالاتفاق .
وقد ذكر الترمذي حكم الأقسام الثلاثة فيما تقدم وذكر هاهنا :
حكم القسم الرابع
وهم الحفاظ المتقنون الذين يقل خطؤهم
وذكر أنه لم يسلم من الغلط والخطأ كبير أحد من الأئمة مع حفظهم ، وهو كم قال .
وقال ابن معين : (( من لم يخطئ فهو كذاب )) .
وقال ابن معين : (( لست أعجب ممن يحدث فيخطئ ، وإنما أعجب ممن يحدث فيصيب ! )) .
وقال ابن المبارك : (( ومن يسلم من الوهم ؟ )) .
وقد وهمت عائشة جماعة من الصحابة في رواياتهم للحديث وقد جمع بعضهم جزءاً في ذلك .
ووهم سعيد بن المسيب ابن عباس في قوله : (( تزوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ميمونة وهو محرم )) .
وقرأت بخد أبي حفص البرمكي الفقيه الحنبلي : ذكرت لأبي الحسن – يعني الدار قطني - : جاء عمرو بن يحيى المازني في ذكره الحمار موضع البعير ، في توجه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى خيبر ، وأن أحد لم يضعفه بذلك . فقال أبو الحسن : (( مثل هذا في الصحابة ، قال : روى رافع بن عمرو المزني قال : (( رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ناقة أو حمل ، أفيضعف الصحابي بذلك ! )) . انتهى .
وقد ذكر الأثرم لأحمد أن ابن المديني كان يحمل على عمرو بن يحيى ، وذكر له هذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى على حمار ، ، وقال : إنما هو على بعير ، فقال أحمد :
(( هذا سهل )) .
وقال : (( حماد بن زيد قد أخطأ في غير شئ )) .
وقال علي بن المديني : (( المحدثون صحفوا وأخطأوا ، ما خلا أربعة )) يزيد بن زريع ، وابن علية ، وبشر بن المفضل ، وعبد الوارت بن سعيد )) .
وقال البرذعي : (( شهدت أبا زرعة ذكر عبد الرحمن بن مهدي ومدحه وأطنب في مدحه ، وقال : وهم في غير شئ ، ثم ذكر عدة أسماؤ صحفها ، وقال : قال : عن سماك عن عبد الله بن ظالم ، وإنما هو مالك بن ظالم )) .
وقال ابن معين : (( يحيى بن زكريا بن أبي زائدة كيس لا أعلم أخطأ إلا في حديث واحد )) .


وقد ذكر الترمذي ههنا :

تراجم طائفة من أعيان الحفاظ مختصرة

فنذكرهم ، ويذكر معهم ممن لك يسمعه أيضاً ، على وجه الاختصار ، إن شاء الله تعالى :
فمنهم : أبو زرعة بن عمرو بن جرير :
واسمه : هرم ، وقيل : عبد الرحمن ، قاله ابن معين وغيره ، وقيل : عبد الله ، وقيل : عمرو . وجده جرير بن عبد الله البجلي الكوفي . يروي عن جده جرير وعن أبي هريرة ، وروى عنه إبراهيم النخعي وغيره .
قال ابن أبي خيثمة : حدثنا أبي ثنا جرير عن عمارة بن القعقاع قال : قال لي إبراهيم : (( حدثني عن أبي زرعة ، فإني سألته عن حديث ، ثم سألته عنه بعد سنتين فما أخرم منه حرفاً )) .
وخرّجه ابن عدي عن الحسين بن يوسف الفربري عن أبي عيسى الترمذي عن ابن حميد كما خرجه الترمذي ههنا .
ومنهم : سالم بن أبي الجعد :
واسم أبي الجعد رافع الأشجعي ، مولاهم ، الكوفي ، وهو ثقة متفق على حديثه .
وكلام منصور الذي خرجه الترمذي خرجه ابن عدي عن الحسين بن يوسف عن الترمذي ، مع أن بعضهم تكلم في سالم [ بن أبي الجعد ] : قال ابن جرير : ثنا ابن حميد حدثنا جرير عن المغيرة قال : (( ثلاثة كانوا لا يعبأون بحديثهم ، فذكر أحدهم سالم بن أبي الجعد )) .
ومنهم : عبد الملك بن عمير القرشي الكوفي :
يكنى أبا عمرو ، وهو ثقة متفق على حديثه .
وقد سبق أن أحمد قال : هو كثير الاضطراب ، وقدم سماكاً وعاصم بن أبي النجود عليه في الاضطراب ، يعني أنه أكثر منهما اضطراباً .
وقال أحمد : حدثنا سفيان سمعت عبد الملك بن عمير يقول : (( والله إني لأحدث بالحديث وما أدع منه حرفاً )) . وخرجه ابن عدي عن الحسين بن يوسف عن الترمذي كما خرجه هنا .
وقال ابن أبي حاتم : ثنا صالح بن أحمد ثنا علي بن المديني قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : (( كان سفيان يعجب من حفظ عبد الملك ! ، قال صالح : قلت لأبي : هو عبد الملك بن عمير ؟ قال : نعم ، قال ابن أبي حاتم : فذكرته لأبي ؟ قال : (( هذا وهم ! إنما هو عبد الملك بن أبي سفيان ، وعبد الملك بن عمير لم يوسف بالحفظ )) .
ومنهم : قتادة بن دعامة :
السدوسي ، البصري ، يكنى أبا الخطاب .
أحد الأئمة الأعلام ، والحفاظ ، والثقات المتفق على صحة حديثهم ، وإليه المنتهى في الحفظ والاتقان
قال أبو هلال : عن غالب بن بكر بن عبد الله المزني : (( من سره أن ينظر إلى أحفظ من أدركنا في زمانه ، وأجدر أن أن يؤدي الحديث كما سمعه – فلينظر إلى قتادة ! ما رأيت الذي هو أحفظ منه ، ولا أجدر أن يؤدي الحديث كما سمعه )) .
وقال الصعق بن حزن : ثنا زيد أبو عبد الواحد قال سمعت سعيد بن المسيب يقول : (( ما أتاني عراقي أحفظ من قتادة )) .
وروى عبد الرزاق عن معمر أن ابن سيرين قال في منام قص عليه فعبره ، فقال : (( قتادة أحفظ الناس )) .
وقال موسى بن إسماعيل ثنا صاحب ثنا عن مطر الوراق قال (( كان قتادة إذا سمع الحديث حفظه حفظاً ، وكان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل حتى يحفظه )) .
وقال أحمد ثنا عبد الرزاق عن معمر قال قال قتادة لسعيد : (( خذ المصحف ، فعرض عليه سورة البقرة فلم يخط فيها حرفاً واحداً . فقال : أحكت ؟ قال : نعم ، قال : (( لأنا لصحيفة جابر بن عبدالله أحفظ مني لسورة البقرة ، وكانت قرئت عليه )) . وبهذا الإسناد عن قتادة قال : (( ما قلت لأحد قط : أعيد عليّ )) .
وقال أبو داود الطيالسي : (( ذكر سفيان لشعبة حديثاً للقتادة ، فقال سفيان: وكان في الدنيا مثل قتادة ! )) .
ومنهم : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري :

القرشي ، يكنى أبا بكر ، أحد الأئمة الأعلام الحفاظ الأثبات ، وكان يقال : (( أنه أعلم الناس بكل فن )) .

قال ابن أبي خيثمة : حدثنا أبو سلمة التبوذكي ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال : (( جالست جابر بن عبد الله ، وابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، فلم أر أحداً أنسق للحديث من الزهري )) .

وقال أحمد بن حنبل : قيل لسفيان – يعني ابن عيينة – قال عمرو بن دينار : (( أرأيت أحداً أبصر بالحديث من الزهري ؟ )) قال : (( نعم )) .

وروى ابن عدي بإسناده عن الليث قال : كان ابن شهاب يقول : (( ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسبته )) .

وعن عمر بن عبد العزيز قال:((ما رأيت أحداً أحسن سوقاً للحديث – إذا حدّث – من الزهري)) .  

وعن أيوب السختياني قال : (( ما رأيت أعلم من الزهري ! قيل له : ولا الحسن ؟! قال : ما رأيت أعلم من الزهري ! )) .
وقال عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري : (( ما استعدت حديثاً قط ، ولا شككت في حديث قط ، إلا حديثاً واحداً ، فإذا هو كما حفظت )) .
وقال أحمد : (( الزهري أحسن حديثاً وأجود الناس إسناداً )) .
وكان عمر بن عبد العزيز يقول : (( لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية منه )) . وكذا قال مكحول .
وقال الثوري : (( مات الزهري يوم مات وما أحد أعلم بالسنة منه )) .
وقال هشام بن عمار أخبرنا الوليد عن سعيد (( أن هشام بن عبد الملك سأل الزهري أن يملي على بعض ولده شيئاً من الحديث ؟ فدعا بكاتب فأملى عليه أربعمائة حديث ، فخرج الزهري من عند هشام ، فقال : أين أنتم يا أصحاب الحديث . فحدثهم بتلك الأربعمائة . ثم لقي هشاماً بعد شهر أو نحوه ، فقال الزهري : إن ذلك الكتاب قد ضاع ، فقال : لا عليم ، فدا بكاتب فأملها عليه ، ثم قابل هشام بالكتاب الأول فما غادر حرفاً واحداً ! )) .
وقال أبو حاتم الرازي : (( أثبت أصحاب أنس الزهري ، ثم قتادة ، ثم ثابت البناني )) .
ومنهم يحيى بن أبي كثير الطائي :
يكنى أبا نصر ، من أهل اليمامة ، واسم أبي كثير صالح بن المتوكل ، كان أحد الأئمة الربانيين ، والحفاظ المتقنين .
قال أيوب : (( ما بقي على وجه الأرض مثل يحيى بن أبي كثير ))
وذكر ابن المديني أنه سمع يحيى بن سعيد يقول قال شعبة : (( حديث يحيى بن أبي كثير أحسن من حديث الزهري )) .
وروى عبد الرحمن بن الحكم بن بشير قال : (( كان شعبة يقدم يحيى بن أبي كثير على الزهري )) . والحكاية التي ذكرها الترمذي عن أيوب خرّجها ابن عدي عن الحسين بن يوسف عن الترمذي ، وكان يحيى بن أبي كثير يرسل .
وضعف يحيى بن سعيد مرسلاته وقال : (( هي شبه الريح )) .
وقال أحمد : (( لا تعجبني مراسيله ، لأنه قد روى عن رجال ضغار ضعاف )) .
وليحيى ابن أبي كثير كلام حسن في علم المعارف والمحبة والخشية والمخاوف .
ومنهم : أيوب بن أبي تميمة السختياني :
البصري يكنى أبا بكر ، واسم أبيه كيسان ، أحد الأئمة الأعلام الربانيين الحفاظ الأثبات .
وكان شعية يقول : (( حدثنا أيوب السختياني وكان سيد الفقهاء )) .
وقال أبو خشينة : (( سألت محمد بن سرين من حدثك بحديث كذا وكذا ؟ قال : حدثني الثبت الثبت أيوب )) .
حدث عنه مالك بن أنس وقال : (( ما حدثكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه )) . وروى عن شعبة مثله .
وعن هشام بن عروة قال :((ما قدم علينا أحد من أهل العراق أفضل من أيوب السختياني ومسعر ))
وقال ابن أبي مليكة : (( أيوب ما بالمشرق مثله ! )) .
وقال عبد الوهاب الثقفي سمعت ابن عون يقول : (( عليكم بأيوب فإنه أعلم مني ، قال : وسمعت يونس يقول : عليكم بأيوب فإنه أعلم مني )) .
وقال ابن المبارك : (( لم أر رجلاً أفضل من أيوب )) .
وقال القواريري سمعت حماد بن زيد يقول : (( سمعت أيوب ويحيى بن عتيق وهشاماً يتذاكرون حديث محمد يعني ابن يسرين ، فذكروا حديثاً ، فقال أيوب : هو كذا ، فخالفه هشام ، وسحيى ، ثم لم يقوما حتى رجعا إلى حفظ أيوب ، قال : فأراد أيوب أن يضع من نفسه فقال : وما الحفظ ؟ وأي شئ الحفظ ؟ ! هذا فلان يحفظ . قال حماد : رجل رأيته يضحك به )) .
وقال ابن معين : (( أيوب ثقة ، وهو أثبت من ابن عون ، وإذا اختلف أيوب وابن عون في الحديث فأيوب أثبت منه )) .
وسئل ابن معين وابن عون عن أحاديث أيوب اختلاف ابن عليه وحماد ابن زيد ؟ فقال : إن أيوب كان يحفظ ، وربما نسي الشئ )) .
قال يحيى : وأخبرني عبد الصمد ابن عبد الوراث عن أبيه عن أيوب أنه كان إذا قدم البصرة يقول : (( خلوها رطبة قبل أن تتغير )) . ولم يكن يكتب ولا يكتب .
قيل ليحيى : (( كان شعبة هم أن يترك حديث أيوب ؟ . قال : كان أيوب خيراً من شعبة ، ولكن لحال أنه كان يتحفظ ولم يكن يكتب )) .
قال يحيى : (( أيوب ، ويونس ، وابن عون هؤلاء خيار الناس ، وسليمان التيمي أيضاً )) .
وذكر ابن مهدي عن حماد بن زيد قال لي أيوب : (( لقد كنت أجمعت أن لا أحدث بشئ اختل عليّ فيه )) .
وقل سلاّم بن أبي مطيع قال أيوب : (( لو كنت كاتباً عن أحد من الناس كتبت عن ابن شهاب )) .
ومنهم مسعر بن كدام :
ابن ظهير بن رافع الهلالي الرواسي . وقيل له : الرّواسي لكبر رأسه ، يكنى أبا سلمة ، أحد الأئمة الأعلام الكوفيين ، كان هشام بن عروة يقول : (( ما رأيت بالكوفة مثله )) .
وقال ابن عيينة : (( ما رأيت أفضل من مسعر ))  وقال يحيى ابن سعيد : (( ما رأيت مثل مسعر )) . وكان ابن عيينة يحدث عن مسعر ويقول : (( كان مسعر من معادن الصدق )) .
وقال الثوري : (( كنا إذا اختلفنا في شئ سألنا مسعراً عنه )) .
وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري :((كان شعبة وسفيان إذا اختلفا قالا اذهبا بنا إلى الميزان :مسعر)) .
قال ابن المديني قلت ليحيى بن سعيد : (( أيما أثبت هشام الدستوائي أو مسعر ؟ قال : كان مسعر أثبت الناس )) .
وقال أبو نعيم : (( ما رأيت أثبت في حديث من مسعر )) .
وقال ابن عيينة قالوا للأعمش : (( إن مسعراً يشك في الحديث ؟ قال : شك مسعر أحب إلىّ من يقين غيره )) .
وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن شعبة قال : (( كنا نسمي مسعراً المصحف )) ، كأنه يريد إتقانه وضبطه . وكان مسعراً قانتاً لله ، مخلصاً يجتنب الشهرة ، ويحب الخمول . وقد نسب إلى شئ من الإرجاء ، فتكلم فيه الثوري وشريك بسبب ذلك .
ومنهم : شعبة بن الحجاج بن الورد :
العتكي الأزدي الواسطي ، : يكنى أبا بسطام . سكن البصرة .
وهو أول من وسع الكلام في الجرح والتعديل واتصال الأسانيد وانقطاعها ، ونقب عن دقائق علم العلل . وأئمة هذا الشأن بعده تبع له في هذا العلم .
وقال صالح بن محمد الحافظ : (( أول من تكلم في الرجال شعبة ابن الحجاج ، ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان ، ثم تبعه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين .
وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه : (( كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن )) يعني في الرجال ، وبصره في الحديث ، وتثبته وتنقيته للرجال .
وقال عبد الله بن إدريس : (( كان شعبة قبان المحدثين )) .
وقال حماد بن زيد قال لنا أيوب : (( الآن يقدم عليكم رجل من أهل واسط هو فارس في الحديث فخذوا عنه . قال حماد : فلما قدم شعبة أخذت عنه )) .
وقال أبو الوليد الطيالسي قال لي حماد بن سلمة : (( إذا أردت الحديث فالزم شعبة )) .
قال أبو الوليد وسمعت حماد بن زيد يقول : (( لا أبالي من خالفني إذا وافقني شعبة ، لأن شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث مرة . إذا خالفني شعبة في شئ تركته )) .
وكان الثوري يقول : (( شعبة أمير المؤمنين في الحديث ، وكان يقول : أستاذنا شعبة )) .
قال الشافعي : (( لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق )) .
وقال أحمد : (( شعبة أثبت في الحكم من الأعمش ، وأعلم بحديث الحكم ، ولولا شعبة ذهب حديث الحكم . وشعبة أحسن حديثاً من الثوري ، لم يكن في زمان شعبة مثله في الحديث ، ولا أحسن حديثاً منه ، قسم له من هذا حظ ، وروى عن ثلاثين رجلاً من أهل الكوفة لم يرو عنهم سفيان )) .
وقال أحمد أيضاً : (( كان شعبة أثبت من سفيان ، وأنقى رجالاً )) ؛ وقال مرة : (( شعبة أنبل رجالاً وأنسق حديثاً ، يعني من سفيان )) .
وقال علي بن المديني سمعت يحيى بن سعيد يقول : (( كان شعبة أعلم بالرجال فلان عن فلان كذا كذا.وكان سفيان صاحب أبواب.قال: وكان شعبة أمرّ في الأحاديث الطوالات ، يعني أسرد لها )) .
وقال أبو داود : (( لما مات شعبة ، قال سفيان : مات الحديث ! قيل له : هو أحسن حديثاً من سفيان ؟ قال : ليس في الدنيا أحسن حديثاً من شعبة ومالك على القلة ، والزهري أحسن حديثاً ، وشعبة يخطئ فيما لا يضره ، ولا يعاب عليه – يعني في الأسماء )) .
وقال العجلي : (( شعبة ثقة ثبت في الحديث ، وكان يخطئ في أسماء الرجال قليلاً )) .
وقال أحمد : (( ما أكثر ما يخطئ شعبة في أسامي الرجال )) . وقال أيضاً : (( كان شعبة يحفظ ، ثم يكتب إلا شيئاً قليلاً ، ربما وهم في الشئ )) .
وقال أحمد : (( سئل عفان أيما أقل خطأً شعبة أو سفيان . )) ، قال : (( شعبة بكثير )) .
قال يزيد بن هارون : (( لولا أن شعبة أراد الله ما ارتفع هكذا )) .
قال ابن أبي حاتم : (( يعني بكلامه في رواة العلم )) .
وقال أبو حاتم الرازي : (( كان الثوري قد غلب عليه شهوة الحديث وحفظه ، وكان شعبة أبصر بالحديث وبالرجال ، وكان الثوري أحفظ ، وكان شعبة بصيراً بالحديث جداً ، فهماً له ، كأنه خلق لهذا الشأن )) .
وقد خرج ابن عدي عن الحسين بن يوسف عن الترمذي عن عبد بن حميد الحديث الذي خرجه الترمذي ههنا في اختلاف شعبة إلى شيوخه .
وخرج أيضاً من حديث حماد بن زيد قال : (( إذا خالفني شعبة في الحديث تبعته ! قيل له : إن شعبة كان يسمع ويعيد ويبدي ، وكنت أنا أسمع مراة واحدة )) .
وقال يعقوب بن شيبة : يقال : (( إن شعبة إذا لم يسمع الحديث مرتين لم يعتد به ، سمعت سهل بن محمد العسكري أخبرني ابن أخي ابن أبي زائدة عن عمه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال : سألت شعبة عن حديث ؟ فلم يحدثني به . وقال لي : لم أسمعه إلا مرة واحدة )) .
وقال أبو الوليد وقال حماد بن زيد : (( شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث مرة ، يعاود صاحبه مراراً ، ونحن كنا إذا سمعنا مرة اجتزينا به .
ومنهم : سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري :
وليس من ثور همدان على الأصح – أو عبد الله الكوفي ، أحد الأئمة المجتهدين ، والعلماء الربانيين ، والحفاظ المبرزين .
وقد قال فيه شعبة،وابن عيينة،وأبو عاصم ، وابن معين ، وغيرهم : (( إنه أمير المؤمنين في الحديث ))
وقال ابن المبارك : (( ما كتبت عن أحد أفضل منه )) .
وعنه قال : (( ما رأيت مثل سفيان )) .
وعن يونس بن عبيد قال : (( ما رأيت أفضل من سفيان )) .
وقال ورقاء بن عمر : (( لم ير سفيان مثل نفسه )) .
وقال ابن عيينة : (( ما رأيت قط مثله )) .
[و] قال عبد الرزاق : سمعت سفيان يقول : (( ما استودعت قلبي شيئاً [قط] فخانني ، وكان شعبة يقول : (( سفيان أحفظ مني ، وإذا خالفني في حديث فالحديث حديثه ! )) .
وقال يحيى بن سعيد : (( ما رأيت أحداً أحفظ من سفيان ثم شعبة ، ثم هشيم )) .
وقال محمد بن خلاد سمعت يحيى بن سعيد وذكر شعبة وسفيان فقال : (( سفيان أقل خطأً ، لأنه يرجع إلى كتاب )) .
وقال ابن عيينة : (( ما بالعراق أحد يحفظ الحديث إلا سفيان )) .
وقال أبو داود الطيالسي عن شعبة : (( ما حدثني أحد عن شيخ إلا وإذا سألته يعني ذلك الشيخ يأتي بخلاف ما حدث به ، ما هلا سفيان الثوري ، فإنه لم يحدثني عن شيخ إلا وسألته وجدته على ما قال سفيان )) .
وقال أحمد : (( سفيان أحفظ للإسناد وأسماء الرجال من شعبة )) .
وقال إسحاق بن هانئ : (( قلت لأحمد : إن اختلف سفيان وشعبة في الحديث فالقول قول من ؟ )) . قال : (( سفيان أقل خطأً ، ويقول : سفيان آخذ )) ، وقال : (( الثوري أعلم بحديث الكوفيين ومشايخهم من الأعمش )) . وقال : (( علم الناس إنما هو عن شعبة ، وسفيان ، وزائدة ، وزهير ،
هؤلاء أثبت الناس وأعلم بالحديث من غيرهم )) .
وقال معاوية بن عمرو عن زائدة : (( كنا نأتي الأعمش فيحدثنا فيكثر ، ونأتي سفيان الثوري فنذكر له تلك الأحاديث فيقول : ليس هذا من حديث الأعمش ، فنقول : هم حدثنا به الساعة ! فيقول : اذهبوا فقولوا له إن شئتم ، فنأتي الأعمش فنخبره بذلك فيقول : صدق سفيان ، ليس هذا من حديثنا ! )) .
وقال أبو حاتم الرازي : (( هو إمام أهل العراق ، وأتقن أصحاب أبي إسحاق ، وهو أحفظ من شعبة ، وإذا اختلف شعبة والثوري فالثوري )) .
وقال أبو زرعة : (( كان الثوري أحفظ من شعبة في إسناد الحديث ومتنه )) .
وقال أبو داود : (( ليس يختلف سفيان وشعبة في شئ إلا يظفر به سفيان ، وخالفه في أكثر من خمسين حديثاً القول فيها قول سفيان ! )) .
قال : وبلغني عن يحيى بن معين أنه قال :((ما خالف أحد سفيان في شئ إلا كان القول قول سفيان))
وقال وهيب بن خالد : (( ما أدرك الناس أحفظ من سفيان )) .
قال الأشجعي : (( ذهبت مع سفيان إلى هشام بن عروة فجعل سفيان يسأل هشاماً ، وهشام يحدثه ، حتى إذا فرغ قال له سفيان : أعيدها عليك ؟ فأعادها إليه ! قال : ثم قال هشام لأصحاب الحديث : احفظوا كما حفظ صاحبكم . قالوا : لا نستطيع أن نحفظ كما حفظ ! )) .
وذكر العجلي عن بعض الكوفيين عن شريك قال : (( قدم علينا سالم الأفطس فأتيته ومعي قرطاس فيه مائة حديث ، فسألته عنها ؟ فحدثني بها وسفيان يسمع ، فلما فرغ قال لي سفيان : أرني قرطاسك ، قال : فأعطيته إياه فخرقه فرجعت إلى منزلي فاستلقيت على قفاي فحفظت منها سبعة وتسعين [حديثاً] ، وذهبت عني ثلاثة ، قال : وحفظها سفيان كلها ! )) .
كان سفيان ممروراً ، لا يخالطه شئ من البلغم ، لا يسمع شيئاً إلا حفظه ، حتى كان يخاف عليه .
وقال يحيى بن سعيد : (( سفيان فوق مالك في كل شئ )) .
وعن ابن المبارك قال : (( لا أعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان ! )) . وعنه قال : (( ما رأيت أحداً خيراً من سسفيان ! )) .
وعن ابن عيينة قال : (( ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان )) .
وقال زائدة : (( سفيان أعلم الناس في أنفسنا ، وكان يرى أنه سيد المسلمين ! )) .
قال أحمد قال ابن عيينة : (( لن ترى بعينك مثل سفيان حتى تموت ! قال أحمد : هو كما قال )) .
قال أحمد : (( ما يتقدم سفيان في قلبي أحد ، ثم قال : أتدري من الإمام ؟ الإمام سفيان الثوري )) .
قال عبد الرحمن بن الحكم بن بشير : (( ما سمعت بعد التابعين بمثل سفيان )) .
وقال المثنى بن الصباح : (( سفيان عالم الأمة وعابدها )) .
وفضائله كثيرة جداً ، وهي مذكورة في كتبه كثيرة من تصانيف العلماء . وأفرد أبو الفرج ابن الجوزي مناقبه في مجلد .
قال علي بن المديني : (( لا أعلم سفيان صحف في شئ قط إلا في اسم امرأة أبي عبيدة ، وكان يقول : حُفينة )) . يعني أن الصواب جفينة بالجيم .
ومنهم : مالك بن أنس :
ابن أبي عامر الأصبحي ، إمام دار الهجرة ، المجتمع على إمامته ، وجلالته ، وفضله ، وعلمه .
قال الشافعي : (( إذا جاء الأثر فمالك النجم )) . وقال أيضاً : (( لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز )) ، وقال أيضاً : (( كان مالك إذا شك في الحديث تركه كله )) ، وقال أيضاً : (( العلم يدور على مالك ، وابن عيينة والليث ! )) .
وقال ابن مهدي : (( ما أقدم على مالك في صحة الحديث أحداً )) .
وقال يحيى بن سعيد : (( ما في القوم أصح حديثاً من مالك ، يعني بالقوم مالكاً ، والثوري ، وابن عيينة )) .
وقال أحمد : (( مالك أصح حديثاً من ابن عيينة )) ، قيل له : فمعمر ؟ فقدم عليه مالكاً . وسئل أي أصحاب الزهري أثبت ؟ قال : (( مالك أثبت في كل شئ )) .
وقال ابن معين : (( أثبت أصحاب الزهري مالك ، ثم معمر ، قال : ومالك أثبت في نافع من أيوب ، وعبيد الله بن عمر ، وليث ابن سعد )) .
وقال الفلاس : (( أثبت من روى عن الزهري ممن لا يختلف فيه مالك بن أنس )) .
قال عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول : (( كنت أنا وعلي بن المديني فذكرنا أثبت من روى عن الزهري ، فقال علي : سفيان ابن عيينة ، فقلت أنا : مالك بن أنس . وابن عيينة يخطئ في نحو من عشرين حديثاً عن الزهري . وقلت : هات ما أخطأ فيه مالك ؟ فجاء بحديثين أو ثلاثة ، قال : فنظرت ما أخطأ فيه سفيان بن عيينة فإذا هو أكثر من عشرين حديثاً )) .
وقال أبو حاتم الرازي : (( مالك إمام أهل الحجاز ، وهو أثبت أصحاب الزهري . وإذا خالفوا مالكاً من أهل الحجاز حكم لمالك ، ومالك نقي الرجال نقي الحديث ، وهو أتقن حديثاً من الثوري والأوزاعي ، وأقوى في الزهريمن ابن عيينة ، وأقل خطأ منه ، وأقوى من معمر وابن أبي ذئب )) .
وقال أحمد : (( مالك من أثبت الناس ، ولا تبالي أن لا تسأل عن رجل روى عنه مالك ، ولا سيما مديني )) .
وسئل أحمد عن مالك وابن عيينة في الزهري ؟ قال : (( مالك أثبت مع قلة ما روى )) .
وقال : (( معمر أحبهم إلىّ وأحسنهم حديثاً وأصح ، - يعني أصحاب الزهري – وبعده مالك )) .
وسئل أيما أثبت في نافع عبيد الله أو مالك ؟ قال : (( ليس أحد أثبت في نافع من عبيد الله )) ، كذا نقله المروذي عن أحمد .
ونقل ابن هانئ عن أحمد قال : (( أوثق أصحاب نافع عندي أيوب ثم مالك ثم عبيد الله )) .
ونقل ابن هانئ عنه أيضاً قال : (( ليس أحد في نافع أثبت من عبيد الله بن عمر ، ولا أصح حديثاً منه )) . وهذا كله يخالف قول ابن معين .
وقد روى ابن أبي حاتم من طريق ابن مهدي قال قال وهيب لمالك : (( لم أر أروى عن نافع من عبيد الله بن عمر إن كان حفظ ، فقال مالك : صدقت . قال وهيب : وقلت : (( لن أر أثبت عن نافع من أيوب ! ، فضحك مالك ، أي كأنه يريد مالك نفسه )) .
وذكر ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن عيينة قال : (( ومن كان أطلب لحديث نافع وأعلم به من أيوب؟! )) .
وقال ابن المديني : (( أثبتهم عندي أيوب )) .
وقال يحيى القطان : (( ابن جريج أثبت في نافع من مالك )) .
قال ( يحيى ) : (( ومرسلات مالك أحب إلىّ من مرسلات الأعمش والتيمي ويحيى بن أبي كثير وأبي إسحاق وابن عيينة والثوري )) .
قال يحيى : (( ليس في القوم أصح حديثاً من مالك )) .
وهذا معنى ما ذكره الترمذي عن يحيى أنه قال : (( مالك عن ابن المسيب أحب إلى من سفيان عن النخعي )) .
وقال النسائي : (( أمناء الله عزوجل على علم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : شعبة بن الحجاج ، ومالك بن أنس ، ويحيى بن سعيد القطان . قال : والثوري إمام إلا أنه كان يروي عن الضعفاء ، وكذلك بن المبارك من أجلّ أهل زمانه ، إلا أنه يروي عن الضعفاء )) .
قال : وما أحد عندي بعد التابعين أنبل من مالك ولا أجل ولا آمن على الحديث ، ثم إليه شعبة في الحديث ، ثم يحيى [بن سعيد] القطان . ليس بعد التابعين آمن على الحديث من هؤلاء الثلاثة ، ولا أقل رواية عن الضعفاء )) .
وقال يحيى القطان : (( سفيان وشعبة ليس لهما ثالث إلا مالك )) .
وقال ابن معين : (( مالك أمير المؤمنين في الحديث )) .
وقال ابن المديني : (( كل مدني لم يحدث عنه مالك – ففي حديثه شئ ، لا أعلم مالكاً ترك إنساناً في حديثه شئ )) .
ومنهم : عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمد الأوزاعي :
أبو عمرو ، إمام أهل الشام ، وأحد الأئمة الأعلام .
ذكر إسماعيل بن عياش أنه سمع الناس سنة أربعين ومائة يقولون  (( الأوزاعي اليوم عالم الأمة )) .
وقال مالك : (( الأوزاعي إمام يقتدى به )) . وكان مالك يرجحه على سفيان الثوري وغيره )) . أ
وقال عبد الله بن داود الخريبي : (( كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه )) .
قال ابن معين : (( الأوزاعي أثبت من سفيان بن عيينة )) .
وقال إسحاق بن إبراهيم : (( إذا اجتمع سفيان الثوري ومالك ابن أنس والأوزاعي على أمر فهو سنة ، وإن لم يكن في كتاب ناطق ، فإنهم أئمة )) .
وقال الفلاس : (( الأئمة خمسة : الأوزاعي بالشام ، والثوري بالكوفة ، ومالك بالحرمين ، وشعبة ، وحماد بن زيد بالبصرة )) .
وذكر ابن مهدي : الأئمة أربعة ، ولم يذكر شعبة ، وقد خرجه الترمذي ، وروي من غيروجه عن ابن مهدي .
وفي رواية عنه قال : (( أئمة الناس في زمانهم أربعة )) ، فذكرهم .
وقال ابن مهدي أيضاً : (( لم يكن بالشام أعلم بالسنة من الأوزاعي )) .
وذكر الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال : (( كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا منا نعرض الدرهم الزائف على الصيارفة ، فما عرفوا منه أخذنا ، وما أنكروا منه تركنا )) .
ومنهم : حماد بن زيد بن درهم :
أبو إسماعيل البصري أحد الأعلام الأثبات .
قال أحمد : (( هو من أئمة المسلمين ، من أهل الدين والإسلام ، وهو أحب إلى من حماد بن سلمة )) يعني في صحة الحديث .
وقال ابن مهدي : (( لم أر قط أعلم بالسنة وما يدخل في السنة من حماد بن زيد )) . وقال ابن مهدي أيضاً : (( ما رأيت أحداً لم يكتب الحديث أحفظ من حماد بن زيد )) .
وقال أيضاً : (( ما رأيت بالبصرة أفقه منه )) ، وروي عنه قال : (( ما رأيت أعلم من حماد بن زيد ولا من سفيان ولا من مالك )) .
وسئل وكيع : أيهما أحفظ حماد بن زيد أو ابن سلمة ؟ فقال : (( حماد بن زيد ، ما كنا نشبه حماد بن زيد إلا بمسعر )) .
وقال الثوري : (( هو رجل أهل البصرة )) .
قال يحيى بن يحيى : (( ما رأيت أحداً من الشيوخ أحفظ من حماد بن زيد )) .
وقال سليمان بن حرب : (( سمعت حماد بن زيد يحدّث بالحديث فيقول : سمعته منذ خمسين سنة ولم أحدث به قبل اليوم )) ، ولم يكن له كتب إلا كتاب ليحيى بن سعيد الأنصاري )) .
وقال يزيد بن زريع : (( حماد بن زيد أثبت في الحديث من حماد بن سلمة )) .
وقال ابن معين : (( حماد بن زيد أثبت من عبد الوارث وابن علية والثقفي وابن عيينة )) .
وقال أبو الوليد : (( يرون أن حماد بن زيد دون شعبة في الحديث )) .
قال أبو زرعة : (( حماد بن زيد أثبت من حماد بن سلمة بكثير ، أصح حديثاً وأتقن )) .
وقال أحمد : (( ما عندي أعلم بحديث أيوب من حماد بن زيد وقد أخطأ في غير شئ )) .
وقال ابن معين : (( ليس أحد أثبت في أيوب من حماد بن زيد )) .
وقال ابن مهدي : (( لم يكن عنده كتاب إلا جزء ليحيى بن سعيد ، وكله يخلط فيه )) .
وذكر ابن حبان وغيره أنه كان ضريراً ، وكان يحفظ حديثه كله .
وقال وهب بن جرير : (( سأل رجل شعبة عن حديث من حديث أيوب ؟ فقال له : يا مجنون تسألني عن حديث من حديث أيوب وحماد إلى جنبك ؟! )) .
وقال سليمان بن حرب : (( حماد بن زيد في أيوب أكبر من كل من روى عن أيوب )) .
وقال ابن معين : (( إذا اختلف إسماعيل بن علية وحماد ابن زيد في أيوب كان القول قول حماد : قيل ليحيى : فإن خالفه سفيان الثوري ؟ قا ل : فالقول قول حماد بن زيد في أيوب . قال يحيى : ومن خالفه من الناس جميعاً في أيوب فالقول قوله )) .
ولما مات حماد بن زيد قال يزيد بن زريع : (( مات سيد المسلمين !)) .
ومنهم : يحيى بن سعيد القطان :
أبو سعيد ، خليفة شعبة والقائم بعده مقامه في هذا العلم ، وعنه تلقاه أئمة هذا الشأن ، كأحمد وعلي ويحيى ونحوهم .
وقد كان شعبة يحكمه على نفسه في هذا العلم .
ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه عن رسته الأصبهاني قال سمعت ابن مهدي يقول : (( اختلفوا يوماً عند شعبة ، فقالوا : اجعل بيننا وبينك حكماً . فقال : قد رضيت بالأحوال ، يعني يحيى بن سعيد القطان ، فجاء يحيى فتحاكموا إليه ، فقضى شعبة ، فقال له شعبة : ومن يطيق نقدك يا أحول ؟! أو من له مثل نقدك ؟! )) .
وقال ابن معين قال لي عبد الرحمن بن مهدي:((لا ترى بعينيك مثل يحيى بن سعيد القطان أبداً ! )) .
وقال الإمام أحمد : (( ما رأينا مثل يحيى بن سعيد في هذا الشأن – يعني في معرفة الحديث ورواته – هو كان صاحب هذا الشأن – وجعل يرفع أمره جداً - )) .
وقال أحمد أيضاً : (( لم يكن في زمان يحيى القطان مثله ، كان تعلم من شعبة )) .
وسئل أحمد عن يحيى وابن مهدي ووكيع ؟ فقال : (( كان يحيى أبصرهم بالرجال ، وأتقاهم حديثاً ، وأظنه قال : وأثبتهم حديثاً )) .
وقال أيضاً : (( لا يقاس بيحيى بن سعيد في العلم أحد )) .
وقال أيضاً : (( يحيى بن سعيد إليه المنتهى في التثبت بالبصرة )) .
وقال أيضاً : (( ما رأيت في الحديث أثبت منه )) .
قال سهل بن صالح : سألت أحمد بن حنبل ، فقلت : يحيى القطان وابن المبارك إذا اختلفا في حديث فقول من تقدم ؟ فقال : (( ليس تقدم نحن على يحيى أحداً )) .
وقال أبو حاتم الرازي : (( إذا اختلف ابن المبارك ويحيى ابن سعيد وسفيان بن عيينة في حديث آخذ بقول يحيى )) .
قال ابن المديني : (( ما رأيت أحداً أنفع للإسلام وأهله من يحيى ابن سعيد القطان )) .
قال علي : سمعت يحيى بن سعيد يقول : (( ينبغي لصاحب الحديث أن يكون ثبت الأخذ ، ويكون يفهمما يقال له ، ويبصر الرجال ، ثم يتعاهد ذاك )) .
[و] قال البخاري : (( أعلم الناس بالثوري يحيى بن سعيد ، لأنه عرف صحيح حديثه من تدليسه ))
وقال أبو علي الحافظ : حدثنا أبو بكر الواسطي قال سمعت علي ابن المديني يقول : (( شعبة أحفظ الناس للمشايخ ، وسفيان أحفظ الناس للأبواب ، وابن مهدي أحفظهم ، قال : للشميخ والأبواب ، ويحيى بن سعيد أعرف بمخارج الأسانيد ، وأعرف بمواضع الطعن من جميعهم )) .
وقال يحيى بن غيلان سمعت يحيى بن سعيد يقول : (( ما تركت محمد بن إسحاق إلا لله )) .
[و] قال أبو بكر بن خلاد : (( دخلت على يحيى بن سعيد في مرضه فقال لي : يا أبا بكر ما تركت أهل البصرة يتكلمون ؟ قلت : يذكرون خيراً ، إلا أنهم يخافون عليك من كلامك في الناس ، فقال : (( أحفظ عني : لأن يكون خصمي في الآخرة رجل عرض الناس – أحب إلىّ من أن يكون خصمي في الآخرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، يقول : بلغك عني حديث وقع في وهمك أنه عني غير صحيح ، يعني فلم تنكر )) .
ومنهم عبد الرحمن بن مهدي :
البصري ، قرين يحيى بن سعيد ، ويكنى أبا سعيد أيضاً .
قال حسين بن عروة : (( كنا عند حماد بن زيد ، وعنده عبد الرحمن بن مهدي ، فقال حماد : إن كان أحد يؤتى لهذا الشأن – فهو هذا الشاب )) .
وقال جرير الرازي : (( ما رأيت مثل عبد الرحمن بن مهدي )) ، ووصف عنه بصراً بالحديث وحفظاً .
وقال ابن المديني : (( كان ابن مهدي أعلم الناس قالها مراراً .
وفي رواية عنه قال : (( أعلم الناس بالحديث عبد الرحمن بن مهدي )) ، وقال أيضاً : (( أعلم الناس يزيد بن ثابت وقوله عشرة ، وسماهم ، أولهم سعيد بن المسيب . قال : وكان اعلم الناس بقولهم وحديثهم – ابن شهاب ، ثم بعده مالك ، ثم بعده مالك عبد الرحمن بن مهدي )) .
وقال أبو حاتم محمد بن صفوان قال سمعت ابن المديني يقول : (( لو أخذت فاحلفت بين الركن والمقام ، لحلفت بالله أني لم أر أحداً قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي )) .
وقال صالح بن أحمد بن حنبل لأبي : (( أيما أثبت عندك عبد الرحمن بن مهدي أو وكيع ؟ ، قال : (( عبد الرحمن أقل سقطاً من وكيع في سفيان ، قد خالفه وكيع في ستين حديثاً من حديث سفيان ، وكان عبد الرحمن يجئ بها على ألفاظها ، وكان لعبد الرحمن توق حسن )) .
وقال محمد بن أبي بكر المقدمي : (( ما رأيت أحداً أتقن لما سمع ولما لا يسمع من عبد الرحمن بن مهدي )) .
وقال أبو حاتم الرازي : (( عبد الرحمن بن مهدي أثبت من يحيى بن سعيد ، وأتقن من وكيع ، وكان عرض حديثه على سفيان الثوري )) .
وقال الإمام أحمد أيضاً في ابن مهدي : (( رحمه الله – ما كان أشد للألفاظ وأشد توقيه ، وقال : (( كان حافظاً  وكان يتوقى كثيراً / كان يحب أن يحدث باللفظ ، قال : وهو إمام من أئمة المسلمين ، وقال : لم يكن بكثير الحديث جداً ، كان الغالب عليه حديث سفيان ، قال : وكان يتوسع في الفقه ، كان فيه أوسع من يحيى ، كان يحيى يميل إلى قول الكوفيين ، وكان عبد الرحمن يذهب إلى بض مذاهب الحديث وإلى رأي المدنيين )) .
نقل ذلك كله الأثرم عن الإمام أحمد .
وقال أبو حاتم الرازي : (( سئل أحمد عن يحيى ، وعبد الرحمن ، ووكيع ؟ فقال : كان عبد الرحمن أكثرهم حديثاً )) .
وروى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن القواريري قال : (( كان ابن مهدي يعرف حديثه وحديث غيره ، وكان يحيى بن سعيد يعرف حديثه )) .
وعن حماد بن زيد قال : (( لئن عاش ابن مهدي ليخرجن رجل أهل البصرة )) .
وعن حماد أنه سئل عن مسألة ؟ فقال : (( من لهذا إلا ابن مهدي ، فأقبل عبد الرحمن فسألوه عن ذلك فأجاب ، فلما قام من عنده قال : هذا سيد أو فتى البصرة منذ ثلاثين سنة أو نحو هذا )) .
وعن القواريري قال : (( أملى عليّ عبد الرحمن بن مهدي عشرين ألف حديث حفظاً )) .
وعن أحمد بن حنبل قال : (( كان عبد الرحمن بن مهدي خلق للحديث )) .
وعن مهنا : (( سألت أحمد أيهما أفقه عبد الرحمن أو يحيى ؟ قال : عبد الرحمن )) .
وعن ابن المديني قال : (( كان علم عبد الرحمن بن مهدي في الحديث كالسحر )) .
وقال نعيم بن حماد قلت لأبن مهدي : (( كيف تعرف صحيح الحديث وسقيمه ؟ قال : كما يعرف الطبيب المجنون )) .
وعن ابن نمير : (( صدق ، لو قلت له : من أين ؟ لم يكن له جواب )) .
وقال ابن مهدي : (( لا يجوز أن يكون الرجل إماماً حتى يعلم ما يصح وما لا يصح ، وحتى لا يحتج بكل شئ ، وحتى يعلم مخارج العلم )) .
وقال ابن مهدي : (( لأن أعرف علة حديث [واحد] أحب إليّ من أن استفيد عشرة أحاديث )) .
وعنه قال : (( لا يكون إماماً في الحديث من يحدث بكل ما سمع ، ولا يكون إماماً في العلم من يحدث عن كل واحد ، ولا يكون إماماً في العلم من يحدث بالشاذ من العلم ، والحفظ والاتقان )) .
ومنهم : وكيع بن الجرّاح :
ابن مليح بن عدي فرس ، أبو سفيان الرواسي ، الكوفي ، أحد الأئمة الأعلام .
قال أحمد : (( ما رأيت أحداً أوعى للعلم من وكيع ، ولا أشبه بأهل النسك )) . وقال أيضاً : (( كان وكيع حافظاً حافظاً وكان أحفظ من ابن مهدي كثيراً كثيراً )) .
وقال أيضاً : (( ما رأيت احداً ممن أدركنا كان أحفظ للحديث من وكيع )) . وقال أيضاً : (( كان وكيع يحفظ عن سفيان وعن المشايخ فلم يكن يصحف )) .
وقال أيضاً : (( ما رأيت أحداً كان أجمع من وكيع )) . قال : وما (( كتبت عن أحد أكثر مما كتبت عنه )) .
وقال إسحاق بن راهويه : (( حفظي وحفظ ابن المبارك تكلف ، وحفظ وكيع أصلي ، قام وكيع يوماً قائماً ووضع يده على الحائط ، وحدث سبعمائة حديث )) .
وقال بشر بن السري ، وسهل بن عثمان ، ويحيى بن معين : (( مار أينا أحفظ من وكيع )) .
(و) قال إبراهيم بن شماس : (( وكيع أحفظ الناس )) .
وسئل أحمد عن يحيى وابن مهدي ووكيع ؟ فقال : (( كان وكسع أسردهم )) .
قال أبو حاتم : (( وكيع أحفز من ابن المبارك )) .
وقال يحيى بن يمان : (( إن لهذا الحديث رجالاً خلقهم الله منذ [ يوم ] خلق السموات والأرض ، وإن وكيعاً منهم )) .
وقال حماد بن زيد : (( ليس الثوري عندنا بأفضل من وكيع )) .
وسئل عبد الرحمن : (( من أثبت في الأعمش بعد الثوري ؟ قال : ما أعدل بوكيع أحداً ! ، قال له رجل : يقولون : أبو معاوية ، فنفر من ذلك ، وقال : أبو معاوية عنده كذا وكذا وهما )) .
وقال ابن معين : (( وكيع أحب إلىّ في سفيان من عبد الرحمن ابن مهدي ، فذكر ذلك لأبي حاتم وقيل له : أيهما أحب إليك ؟ فقال : عبد الرحمن ثبت ، ووكيع ثقة )) .
وظاهر هذا أنه قدم عبد الرحمن على وكيع .
وقال ابن معين : (( ما رأيت أحفظ من وكيع ! )) .
وقال أيضاً : (( من فضّل عبد الرحمن بن مهدي على وكيع لعنه يحيى )) .
وع عبد الرزاق قال : (( رأيت الثوري ، وابن عيينة ، ومعمراً ، ومالكاً ، ورأيت ، فما رأيت عيناي قط مثل وكيع ! )) .
وقال محمد بن عبد الله بن نمير : (( وكيع أعلم بالحديث من ابن إدريس ، وكانوا إذا رأوا وكيعاً سكتوا )) يعني للحفظ والإجلال .

*     *     *
فهذا ما أشار إليه الترمذي من تراجم بعض أعيان الأئمة الحفاظ المقتدى بهم في هذا العلم . و [قد] ذكر أنه على وجه الاختصار ، ليستدل به على منازلهم ، وتفاوت مراتبهم في الحفظ .
*     *     *

ونذكر بعض تراجم الأئمة

 

الذين تكرر ذكرهم في هذا الكتاب في أثناء الأبواب

وحكي عنهم الكلام في الجرح والتعديل والعلل ، ولم يذكرهم ها هنا :
فمنهم : عبد الله بن المبارك :
ابن واضخ الخراساني ، أبو عبد الرحمن ، إمام خراسان ، الجامع بين الخلال الحسان .
قال ابن عيينة : (( كان فقيهاً ، عالماً ، زاهداً ، سخياً ، شجاعاً ، شاعراً )) .
وقال أحمد : (( لم يكن في زمن ابن المبارك أطلب للعلم منه ، رحل إلى اليمن ، وإلى مصر والشام والبصرة والكوفة ، وكان من رواة العلم ، وكان أهل ذاك .
كتب عن الصغار والكبار ، وجمع أمراً عظيماً ، ما كان أحد أقل سقطاً من ابن المبارك . وكان يحدث من حفظه ، لم يكن ينظر في كتاب )) .
وقال أيضاً : (( ما أخرجب خراسان مثل ابن المبارك )) .
وعن الثوري قال : (( ابن المبارك أعلم أهل المشرق وأهل المغرب )) .
وعن ابن عيينة قال : (( ابن المبارك عالم المشرق والمغرب وما بينهما )) .
وقال ابن مهدي : (( ما رأيت مثل ابن المبارك ! )) ، فقيل له : ولا سفيان ولا شعبة ؟! فقال : (( ولا سفيان ولا شعبة )) .
وقال معتمر بن سليمان : (( ما رأيت مثل ابن المبارك نصيب عنده الشئ الذي يصاب عند أحد )) .
وقال أبو الوليد الطيالسي : (( ما رأيت أجمع من ابن المبارك )) .
وروى ابن الطباع عن ابن مهدي قال : (( الأئمة أربعة : الثوري ومالك ، وحماد بن زيد ، وابن المبارك )) .
وقال أبو إسحاق الفزاري : (( ابن المبارك إمام المسلمين )) .
وقال نعيم بن حماد : (( قلت لابن مهدي : أيهما أفضل عندك ابن المبارك أو سفيان ؟ قال : ابن المبارك . قلت : إن الناس يخالفونك ! قال : إن الناس لم يجربوا ، ما رأيت مثل ابن المبارك )) .
وعنه قال : (( ابن المبارك أثبت من الثوري )) .
وقال سُنيد : عن شعيب بن حرب سمعت سفيان الثوري يقول : (( لو جهدت جهدي أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه بن المبارك لم أقدر عليه ! )) .
وقال ابن عيينة : (( لا ترى عينك مثل ابن المبارك )) .
وسئل ابن معين : من أثبت في حيوة ، ابن المبارك أو ابن وهب ؟ قال : (( ابن المبارك أثبت منه – يعني ابن وهب – في جميع ما يروي،ثم قا ل:ابن المبارك بابه يحيى بن سعيد القطان،يعني أنه يشبهه )).
وقال أسود بن سالم : (( كان ابن المبارك إماماً يقتدى به ، كان من أثبت الناس في السنة . إذا رأيت رجلاً يغمز ابن المبارك بشئ فاتهمه على الإسلام )) .
وقال الأوزاعي لرجل : (( لو رأيت ابن المبارك لقرّت عينك )) .
ولما مات ابن المبارك قال الفضيل بن عياش (( ما خلّف بعده مثله )) .
وعن ابن عيينة قال : (( نظرت في الصحابة فما رأيت لهم فضلاً على ابن المبارك إلا صحبتهم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وغزوهم معه ! )) .
وعن أبي أسامه قال : (( كان ابن المبارك في أصحاب الحديث مثل أمير المؤمنين في الناس ! )) .
وقال شعيب بن حرب : (( ما لقي ابن المبارك رجلاً إلا وابن المبارك أفضل منه )) .
وقال الحسن بن عياش : (( لم يأخذ ابن المبارك في فن من الفنون إلا يخّيل إليك أن علمه كان فيه )).
وقال إسماعيل بن عياش : (( ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك ، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها فيه )) .
وقال عبد العزيز بن أبي زرمة : (( لم تكن خصلة من خصال البر إلا جمعت في ابن المبارك : حياء ، وكرم ، وحسن خلق ، وحسن صحبة ، وحسن مجالسة ، والزهد ، والورع ، وكل شئ )) .
وقال الحسن بن عيسى : (( اجتمع جماعة من أصحاب ابن المبارك : مثل الفضل بن موسى ، ومخلد بن حسين ، ومحمد بن النضر ، فقالوا : تعالوا حتى نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير ، فقالوا : جمع العلم والأدب والنحو واللغة والزهد والشعر والفصاحة والورع والإنصاف وقيام الليل والعبادة والحج والغزو والشجاعة والفروسية والشدة في بدنه وترك الكلام فيما لا يعنيه وقلة الخلاف على أصحابه )) .
وقال العباس بن مصعب : (( جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والتجارة والسخاء والمحبة عند الفرق )) .
وقال ابن المديني : (( ابن المبارك أوسع علماً من ابن مهدي ويحيى بن آدم )) .
وقال جعفر الطيالسي : قلت لابن معين : (( إذا اخالف يحيى القطان ووكيع ؟ قال : القول قول يحيى . قلت : إذا اختلف عبد الرحمن ويحيى ؟ قال : يحتاج من يفصل بينهما ، قلت : أبو نعيم وعبد الرحمن ؟ قال يحتاج من يفصل بينهما ، قلت : ابن المبارك ؟ قال : ذاك أمير المؤمنين )) .
وقال النسائي : (( أثبت أصحاب الأوزارعي ابن المبارك )) .
وقال إبراهيم الحربي عن أحمد : (( إذا اختلف أصحاب معمر فالقول قول ابن المبارك )) .
قال نعيم بن حماد قال ابن المبارك : (( قال لي أبي : لئن وجدت كتبك لأحرقها ! فقلت له : وما عليّ من ذلك وهو في صدري )) .
وكان ابن المبارك يقول : (( لنا في صحيح الحديث شغل عن سقيمة )) . وقال : (( العلم ما يجيئك من هاهنا وهاهنا،يعني المشهور.وقيل له : (( هذه الأحاديث المسنوعة ! قال : تعيش لها الجهابذة )) .
وفضائله ومناقبه كثيرة جداً ، وله تصانيف كثيرة في فنون العلم . رضي الله عنه .
ومنهم : [ الإمام ] أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني :
أبو عبد الله ، ربّاني الأمة في وقته ، وعالمها ، وفيقيهها ، وحافظها ، وعابدها ، وازاهدها . وشهرة فضائله ومناقبه تغني عن الإطالة فيها .
وقد أفرد العلماء التصانيف لمناقبه . فمنهم من طوّل ، ومنهم من قصر . وممن افرد التصنيف لمناقبه ابن أبي حاتم ، وابن شاهين ، والبيهقي ، وأبو إسماعيل الأنصاري ، ويحيى بن منده ، وابن الجوزي . وقد أفردت مصنفاً لمناقبه .
ونذكر ههنا نبذة يسيرة من فضائله في الحديث وعلومه ، لأن المقصود يحصل بذلك ههنا :
قال عبد الله بن أحمد:((كتب أبي ألف ألف حديث،وترك لقوم لم يرو عنهم مائتي ألف حديث !)) .
وقال أبو زرعة : (( كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث ! فقيل له : وما يدريك ! قال : ذاكرته فأخذت عليه الأبواب ! )) .
وسئل أبو زرعة : أنت أحفظ أم أحمد بن حنبل ؟ قال : (( بل أحمد . قالوا : كيف علمت ذاك ؟ قال : وجدت كتب أحمد بن حنبل ليس فيها في أوائل الأجزاء ترجمة أسماء المحدثين الذين سمع منهم ، فكان يحفظ كل جزء ممن سمعه ، وأنا لا أقدر على هذا ! )) .
وعن أبي زرعة قال : أتيت أحمد بن حنبل فقلت : (( أخرج إلىّ حديث سفيان ، فأخرج إلىّ أجزاء كلها سفيان سفيان ، ليس على حديث منها ثنا فلان ! فظننت أنها عن رجل واحد ، فجعلت أنتخب ، فلما قرأ عليّ ، جعل يقول في الحديث : ثنا وكيع ويحيى ، وثنا فلان قال : فعجبت من ذلك ! . قال أبو زرعة : فجهدت في عمري أن أقدر على شئ من هذا فلم أقدر )) .
وقال عبد الله بن أحمد قال لي أبي : خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع ، من المصنف ، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد ، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك بالكلام )) .
وقيل لأبي زرعة : من رأيت من المشايخ المحدثين أحقظ ؟ قال : (( أحمد بن حنبل ! حزر كتبه اليوم الذي مات فيه ، فبلغت اثنى عشر حملاً وعدلاً ، ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان ، ولا في بطنه ثنا فلان ، وكل ذلك كان يحفظه من ظهر قلبه )) .
وقال صالح بن أحمد قال أبي : (( كتبت بخطي ألف ألف حديث ، سوى ما كتب لي )) .
وقال أحمد بن الدورقي سمعت أحمد يقول : (( نحن كتبنا الحديث من سنة أوجه وسبعة وجوه ولم نضبطه ، كيف يضبطه من كتبه من وجه واحد ، أو نحو هذا )) .
وقال أبو عبيد : (( انتهى العلم إلى أربعة : أحمد بن حنبل وهو أفقهم فيه ، وإلى ابن أبي شيبة وهو أحفظهم له ، وإلى علي بن المديني وهو أعلمهم به ، وإلى يحيى بن معين وهو أكتبهم له )) .
وذكر يحيى بن منده في مناقب أحمد بإسناد له عن أبي عبيد قال : (( رباني العلم أربعة : فأعرفهم بالحلال والحرام أحمد بن حنبل ، وأحسنهم سياقة للحديث علي بن المديني ، وأحسنهم معرفة بالرجال يحيى بن معين ، وأحسنهم وضعاً للباب أبو بكر بن أبي شيبة )) .
وقال إبراهيم الحربي : (( انتهى علم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما رواه أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام إلى أربعة : إلى أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وأبي خيثمة ، وأبي بكر بن أبي شيبة . وكان أحمد أفقه القوم )) .
وقال عبد الرزاق : (( رحل إلينا من العراق أربعة من رؤساء الحدي ث: الشاذكوني وكان أحفظهم للحديث ، وابن المديني وكان أعرفهم باختلافه ، ويحيى بن معين وكان أعلمهم بالرجال ، وأحمد ابن حنبل وكان أجمعهم لذلك كله )) .
وقال ابن المديني : (( ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل ، وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب ، ولنا فيه أسوة )) .
وسئل أبو زرعة عن علي بن المديني ويحيى بن معين أيهما كان أحفظ ؟ قال : (( كان علي أسرد وأتقن ، ويحيى أفهم بصحيح الحديث وسقيمه ، وأجمعهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل ، كان صاحب حفظ ، وصاحب فقه ، وصاحب معرفة . قال : وما أعلم في أصحابنا أفقه من أحمد ! قيل له : اختيار أحمد وإسحاق أحب إليك أم قول الشافعي ؟ قال : بل اختيار أحمد وإسحاق أحب إلىّ )) .
وقال : (( ما رأت عيناي مثل أحمد بن حنبل في العلم ، والزهد ، والفقه ، والمعرفة ، وكل خير )) .
وقال أبو زرعة أيضاً : (( ما رأيت مثل أحمد في فنون العلم )) .
وقال أيضاً : (( ما رأيت أجمع من أحمد بن حنبل ؟ قيل له : إسحاق ؟ قال : أحمد أكبر من إسحاق ، وأفقه من أسحاق )) .
وسئل أبو حاتم الرازي عن أحمد وعلي بن المديني أيهما كان أحفظ ؟ قال : كانا في الحفظ متقاربين ، وكان أحمد أفقه )) .
قال أبو حاتم : (( وكان أحمد بارع الفهم بمعرفة الحديث : بصحيحه وسقيمه . وتعلم الشافعي أشياء من معرفة الحديث منه ، وكان الشافعي يقول لأحمد : حديث كذا وكذا قوي الإسناد محفوظ ، فإذا قال : نعم جعله أصلاً وبنى عليه )) .
وقال أحمد بن سلمة : (( قلت لأبي حاتم الرازي : أراك في الفتوى على قول أحمد وإسحاق ، وعندك كتاب الشافعي وكتاب مالك والثوري وشريك ، فتركت هؤلاء كلهم وأقبلت لى قول أحمد وإسحاق ؟! )) قال : (( لا أعلم في دهر ولا عصر مثل هذين الرجلين ؛ رحلا ، وكتبا ، وذكرا ، وصنفا )) .
وقال النسائي : (( لم يكن في عصر أحمد مثل هؤلاء الأربعة : أحمد ، ويحيى ، وعلي ، وإسحاق ، وأعلمهم علي بالحديث وعلله ، وأعلمهم بالرجال وأكثرهم حديثاً يحيى ، وأحظفهم للحديث والفقه إسحاق ، إلا أن أحمد بن حنبل كان عندي أعلم بعلل الحديث من إسحاق ، وجمع أحمد المعرفة بالحديث والفقه والورع والزهد )) .
وقال العجلي : (( أحمد ثقة ثبت في الحديث ، فقيه في الحديث ، متبع للآثار ، صاحب سنة وخير ، نزه النفس )) .
وقال قتيبة : (( أحمد وإسحاق إماما الدنيا )) . وقال : (( لو أدرك أحمد عصر الثوري ، ومالك والأوزاعي ، وليث ، لكان هو المقدم . قلت : تضم أحمد إلى التابعين ؟! قال : إلى كبار التابعين )) .
وقال أبو عبد الله البوشنجي : (( أحمد عندي أفضل من سفيان الثوري ؛ لأن سفيان لم يمتحن من الشدة والبلوى بمثل ما أمتحن به أحمد ؛ ولا علم سفيان ومن تقدم من فقهاء الأمصار كعلم أحمد ، لأنه كان أجمع لها ، وأبصر بمتقنيهم ، وغالطيهم ، وصدوقهم ، وكذوبهم منه )) .
وقال زكريا الساجي : (( أحمد أفضل عندي من مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والشافعي ، لأن هؤلاء نظيراً ، وأحمد فلا نظير له ؟ )) . يعني في وقتهم ووقته . رضي الله عنهم أجمعين .
ومنهم : عليّ بن عبد الله بن جعفر بن نجيح المديني :
السعدي البصري أبو الحسن ، أحد الأئمة الحفاظ المبرزين في علم الحديث وعلله .
كان ابن عيينة ، وهو أحد شيوخه يروي عنه ويقول : (( يلوموني على حبه ، والله لما  أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني ! )) .
وكذا روي عن يحيى القطان أنه قال : (( أنا أتعلم من علي أكثر مما يتعلم مني )) .
وعلي بن المديني : هو شيخ البخاري ، وعنه تلقى هذا العلم ، وكان البخاري يقول : (( ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني )) .
وقال أبو حاتم الرازي : (( كان علي بن المديني علماً في الناس ، في معرفة الحديث والعلل ، وكان أحمد بن حنبل لا يسميه إنما يكنيه أبا الحسن تبجيلاً له )) .
وسئل أبو حاتم عن علي وأحمد أيهما أحفظ ؟ قال : (( كانا في الحفظ متقاربين ، وكان أحمد أفقه ، وكان علي أفهم بالحديث )) .
وقال هارون بن إسحاق الهمداني : (( الكلام في صحة الحديث وسقيمه لأحمد بن حنبل وعلي بن المديني )) .
وسئل ابن رواة الحافظ علي بن المديني وابن معين : أيهما أحفظ ؟ قال : (( كان علي أسرد وأتقن ))
وقال ابن حبان : سمعت على بن أحمد الجرجاني بحلب يقول سمعت حنبل بن إسحاق يقول سمعت عمي أحمد بن حنبل يقول : (( أحفظنا للطوالات الشاذكوني ، وأعرفنا بالرجال يحيى بن معين ، واعلمنا بالعلل علي بن المديني ، وكأنه أومأ إلى نفسه أنه أفقههم )) .
ولابن المديني تصانيف كثيرة في علوم الحديث ، منها : كتاب الأسامي والكنى ثمانية أجزاء ، كتاب الضعفاء عشرة أجزاء ، كتاب المدلسين خمسة أجزاء ، كتاب أول من نظر في الرجال وفحص عنهم جزء ، الطبقات عشرة أجزاء ، من روى عن رجل ولم يره جزء ، علل المسند ثلاثون جزءا ، اللعل التي كتبها عنه إسماعيل القاضي أربعة عشر جزءاً ، علل حديث ابن عيينة ثلاثة عشر جزءاً ، كتاب من لا يحتج بحديثه ولا يسقط جزءان ، الكنى خمسة أجزاء ، الوهم والخطأ خمسة أجزاء ، قبائل العرب عشرة أجزاء ، من نزل من الصحابة سائر البلدان خمسة أجزاء ، التاريخ عشرة أجزاء ، العرض على المحدث جزاءن ، من حدث ثم رجع عنه جزء ، كتاب يحيى وعبد الرحمن في الرجال خمسة أجزاء ، سؤالات يجيى جزاءن ، كتاب الثقاة والمتثبتين عشرة أجزاء ، اختلاف الحديث خمسة أجزاء ، الأسامي الشاذة ثلاثة أجزاء ، الأشربة ثلاثة أجزاء ، تفسير غريب الحديث خمسة أجزاء ، الإخوة والأخوات ثلاثة أجزاء ، من يعرف باسه دون اسم أبيه جزاءن ، من يعرف باللقب جزء ، العلل المتفرقة ثلاثون جزءاً ، مذاهب المحدثين جزاءن .
كان ابن المديني قد امتحن في محنة القرآن ، فأجاب مكرهاً ، ثم إنه تقرب إلى ابن أبي داود ، حيث استماله بدنياه ، وصحبه وعظّمه ، فوقع بسبب ذلك في أمور صعبة ، حتى إنه كان يتكلم في طائفة من أعيان أهل الحديث يرضي بذلك ابن أبي داود ، فهجره الإمام أحمد لذلك ، وعظمت الشناعة عليه ، حتى صار عند الناس كأنه مرتد . وترك أحمد الرواية عنه ، وكذلك إبراهيم الحربي وغيرهما .
وكان [ يحيى ] بن معين يقول : (( هو رجل خاف فقال ما عليه )) .
ولو اقتصر على ما ذكره ابن معين لعذر ، لكن حاله كما وصفنا . وقد روى عنه أنه قال : (( من قال : القرآن مخلوق ، فهو كافر )) .
والله تعالى يرحمه ويسامحه بمنه وكرمه .
ومنهم يحيى بن معين :
أبو زكريا البغدادي ، الإمام المطلق في الجرح والتعديل ، وإلى قوله في ذلك يرجع الناس ، وعلى كلامه فيه يعوّلون .
وقد قال هلال بن العلاء وحجاج بن الشاعر : (( منّ الله على هذه الأمة بيحيى بن معين ، نفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) .
قال أحمد بن عقبة : سألت يحيى بن معين : كم كتبت من الحديث ؟ قال : (( كتبت بيدي هذه ستمائة ألف حديث ! )) .
قال أحمد وإني أظن المحدثين قد كتبوا بأيديهم ستمائة ألف وستمائة ألف .
وقال علي بن المديني : (( حديث الثقات يدور على ستة ، وذكرهم . قال : وما شذ عنهم يصير إلى اثنى عشر ، فذكرهم. قال : ثم صار حديث هؤلاء كلهم إلى يحيى بن معين )) .
وذكر داود بن رشيد : أن يحيى بن معين خلّف له أبوه ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم ، فأنفقه كله على الحديث ، حتى لم يبق له نعل يلبسه ! .
وكان يحيى يوسع القول في الجرح ، ولا يحابي أحداً ، بل يصدع به في وجه صاحبه ولهذا قال عبد الله بن أحمد الدورقي : (( كل من سكت عنه يحيى بن معين فهو ثقة ! )) .
وسئل ابن وارة عن ابن معين وابن المديني أيهما أحفظ ؟ فقال : (( كان عليّ أسرد وأتقن ، وكان يحيى بن معين أفهم بصحيح الحديث وسقيمه )) .
وقال سليمان بن حرب : (( كان يحيى بن معين يقول : في الحديث هذا خطأ ، فأقول : كيف صوابه ؟ فلا يدري ، فأنظر في الأصل فأجده كما قال ! )) .
وقال أبو عمر الطالقاني : (( رأيتهم يقولون : الناس عندنا أربعة : أحمد بن حنبل ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، وعلي بن المديني ، وحيى بن معين )) .
وسمعتهم يقولون : (( محمد بن نمير ريحانة الكوفة ، وأحمد قرة عين الإسلام ، وابن المديني أعلم علماء آثار رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وابن معين برواته وأكثر علم آثار رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) .
وعن عمرو الناقد قال : (( ما كان في أصحابنا أحفظ للأبواب من أحمد بن حنبل ، ولا أسرد للحديث من الشاذكوني ، ولا أعلم بالإسناد من يحيى ، ما قدر أحد يقلب عليه إسناداً قط )) .
قال محمد بن هارون الفلاس المخرّمي : (( إذا رأيت الرجل يقع في يحيى بن معين فاعلم أنه كذاب يضع الحديث ، وإنما يبغضه لما يبين أمر الكذابين )) .
قال أبو حاتم : (( توفي ابن معين بمدينة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وحُمل على سرير النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، واجتمع في جنازته خلق كثير ، وإذا رجل يقول : هذه جنازة بن معين الذاب عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الكذب ، والناس يبكون )) .
وكان ابن معين يكره أن يدوّن كلامه في الجرح والتعديل ، ولم يدوّن هو شيئاً فيما أظن ، وإنما سأله أصحابه ودونوا كلامه . منهم : عباس الدوري ، وإبراهيم بن الجنيد ، ومضر ابن محمد ، و[المفضل] الغلابي ، وعثمان بن سعيد الدارمي ، ويزيد بن الهيثم ، و [ غيرهم ] .
ومنهم : أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد الرازي :
أحد الأعلام ، وحفاظ الإسلام ، وكان من الصلاح والعبادة والخشية بمحل عظيم .
قال أبو العباس محمد بن إسحاق الثقفي : (( لما انصرف قتيبة بن سعيد إلى الري سألوه أن يحدثهم ، فامتنع ، وقال : أحدثكم بعد أن حضر مجالسي أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، ويحيى بن معين ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو خيثمة ؟! فقالوا له : فإن عندنا غلاماً يسرد كل ما حدثت به مجلساً مجلساً ! قم يا أبا زرعة ، فقام أبو زرعة فسرد كل ما حدث بن قتيبة ! فحدثهم قتيبة )) .
وقال محمد بن يحيى الذهلي : (( لا يزال المسلمون بخير ما أبقى الله لهم مثل أبي زرعة الرازي ! وما كان الله ليترك الأرض إلا وفيها مثل أبي زرعة يعلم الناس ما جهلوه )) .
وقال علي بن الحسين بن الجنيد : (( ما رأيت أحداً أعلم بحديث مالك – مسنده ومنقطعه – من أبي زرعة ! وكذلك سائر العلوم ، ولكن خاصة حديث مالك . قيل له : ما في الموطأ والزيادات التي ليست في الموطأ ؟ قال : نعم )) .
وكان أحمد يعظم أبا زرعة ، وإذا جالسه ترك أحمد نوافله واشتغل عنها بمذاكرة أبي زرعة .
وروى عنه أنه قال : (( صح من الحديث سبعمائة ألف حديث ، وهذا الفتى يعني أبا زرعة يحفظ ستمائة ألف حديث )) .
وقال يونس بن عبد الأعلى : (( أبو زرعة وأبو حاتم إماما خراسان ، وبقاؤهما صلاح للمسلمين )) .
وقال ابن وراة سمعت إسحاق بن راهويه يقول : (( كل حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل)) .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : (( ما رأيت أحفظ من أبي زرعة الرازي )) .
وحلف رجل بالطلاق في زمن أبي زرعة : إن أبا زرعة يحفظ مائة ألف حديث ! فسئل عن ذلك أبو زرعة ؟ فقال : (( ليمسك امرأته فإنه لم تطلق منه ! )) .
وقال أبو مصعب الزهري :((لقيت مالك بن أنس وغيره ، فما رأت عيناي مثل أبي زرعة الرازي !))       
وقال أبو حاتم الرازي : (( ما خلّف أبو زرعة بعده مثله ، علماً ، وفقهاً ، وصيانة ، وصدقاً ! وهذا مما لا يرتاب فيه ، ولا أعلم بين المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله . ولقد كان من هذا الأمر بسبيل )) .
وقال أبو حاتم أيضاً : (( الذي كان يعرف صحيح الحديث وسقيمه ، وعنده تمييز ذلك ، ويحسن علل الحديث أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، وبعدهم أبو زرعة كان يحسن ذلك . قيل له : فغير هؤلاء تعرف اليوم أحداً ؟ قال : لا )) .
وذكر أبو حاتم شيئاً من معرفة الرجال فقال : (( ذهب الذي كان يحسن هذا – يعني أبا زرعة – ما بقي بمصر ولا بالعراق أحد يحسن هذا ! )) .
قال أبو حاتم : (( وجرى بيني وبين أبي زرعة يوماً تمييز الحديث ومعرفته ، فجعل يذكر أحاديث ويذكر عللها ، وكنت أذكر أحاديث خطأ وعللها ، وخطأ الشيوخ ، فقال لي : يا أبا حاتم قل من يفهم هذا ، ما أعز هذا ، إذا رفعت هذا عن واحد واثنين ، فما أقل ما تجد من يحسن هذا ! )) .
وقال أبو يعلى الموصلي : (( ما سمعنا يذكر أحد في الحفظ إلا كان اسمه أكثر من رؤيته إلا أبا زرعة الرازي ، فإن مشاهدته كان أعظم من اسمه ، وكان لا يرى أحداً ممن هو دونه في الحفظ أنه أعرف منه ! . وكان قد جمع حفظ الأبواب والشيوخ والتفسير وغير ذلك )) .
قال يحيى بن منده : (( قيل أحفظ الأمة أبو هريرة ، ثم أبو زرعة الرازي . وقيل : ما ولدت حواء قط أحفظ من أبي زرعة )) .
قال : وبلغني بإسناد هو لي مسموع أن أبا زرعة قال : (( أنا أحفظ ستمائة ألف حديث صحيح ، وأربعة عشر ألف إسناد في التفسير والقراءات ، وعشرة الآف حديث مزورة ! قيل له : ما بال المزورة تحفظ ؟ قال : إذا مرّ بي منها حديث عرفته )) .
ومنهم محمد بن إسماعيل :
ابن إبراهيم المغيرة ، الجعفي مولاهم ، البخاري ، الإمام أبو عبد الله ، صاحب الصحيح ، وإمام المحدثين في وقته ، وأستاذ هذه الصناعة . وعنه أخذها كثير من الأئمة ، منهم مسلم بن الحجاج ، وسماه أستاذ الأستاذين ، وسيد المحدثين ، وطبيب الحديث في علله ! وأبو عيسى الترمذي .
وقد ذكر أبو عيسى في أول كتاب العلل : أنه لم ير بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل رحمه الله )) .
وقال ابن خزيمة : (( ما رأيت تحت أديم هذه السماء أعلم بالحديث ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري ! )) .
ولما سأل مسلم البخاري عن حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة في كفارة المجلس ؟ - فبين له علته – قال مسلم : (( لا يبغضك إلا حاسد ، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك )) .
وروى عن محمد بن الأزهر السجزي قال : (( كنت بالبصرة في مجلس سليمان بن حرب ، والبخاري جالس لا يكتب ، فقلت : ما لأبي عبد الله لا يكتب ؟ قال : يرجع إلى بخارى فيكتب من حفظه ! )) .
وقال محمد بن حمدويه : سمعت البخاري يقول : (( أحفظ مائة ألف حديث صحيح ، وأعرف مائتي ألف حديث غير صحيح )) .
وقال أحمد بن حمدون : (( رأيت البخاري ومحمد بن يحيى يسأله عن الأسامي والكنى والعلل ؟ ومحمد بن إسماعيل يمرّ فيه مثل السهم ، كأنه يقرأ : قل هو الله أحد ! )) .
وقال عبد الله الدارمي : (( قد رأيت العلماء بالحجاز ، والعراق ، فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل ! )) .
وقال ابن المديني في البخاري : (( ما رأى مثل نفسه ! )) .
وقال الفلاس : (( حديث ليس يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث )) .
وسئل صالح بن محمد الحافظ عن البخاري وأبي زرعة ؟ فقال : (( أعلمهم بالحديث البخاري ، وأبو زرعة أحفظهم وأكثرهم حديثاً )) .
وعن أبي حاتم الرازي قال : (( محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق )) .
وقال علي بن حجر : (( أخرجت خراسان ثلاثة : أبا زرعة بالري ، ومحمد بن إسماعيل ببخارى ، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي بسمرقند . ومحمد بن إسماعيل عندي أبصرهم ، وأعلمهم ، وأفقههم )) .
وعن إسحاق بن راهويه قال : (( لو كان محمد بن إسماعيل في زمن الحسن بن أبي الحسن لاحتاج الناس إليه ، لمعرفته بالحديث وفقهه )) .
وفضائل البخاري كثيرة جداً ، وامتحن في آخر عمره بمسألة اللفظ بالقرآن ، فإنه قال : (( أفعال العباد مخلوقة )) . فنسبه محمد بن يحيى الذهلي إلى القول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق ، وأمر بهجره ، وضيّق عليه ، فخرج البخاري من نيسابور إلى بخارى ! فتوفي بقرية من قراها .
وقد روي عنه أنه قال : (( من زعم أني قلت : لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب  ، فإني لم أقل هذه المقالة ، إلا أني قلت : أفعال العباد مخلوقة )) .
وروى عنه أنه قال : (( هذه مسألة مشؤومة – يعني مسألة اللفظ – رأيت أحمد بن حنبل وما ناله في هذه المسألة ! جعلت على نفسي أن لا أتكلم فيها )) .
ووللبخاري تصانيف كثيرة ، وقد سبق الناس إلى تصنيف الصحيح والتاريخ ، والناس بعده تبع له في هذين الكتابين ، إذ كل من صنّف في هذين العلمين يحتاج إلى كتابه . وقد كان أبو أحمد الحاكم يعيب من صنف فيهما بعده ، ويزعم أنهم أخذوا كتابي البخاري ، ولا ريب أنهم استعانوا بهما ، وزادوا عليهما ، والله يغفر لنا ولهم أجمعين . آمين .
ومنهم عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام :
ابن عبد الصمد السمرقندي الدارمي ، يكنى أبا محمد أحد الأئمة الحفاظ المبرزين ، والعلماء العاملين ، وقد صنف المسند والجامع والتفسير . وامتحن في مسألة القرآن فلم يجب . وألحّ عليه السلطان في قضاء سمرقند ، فتقلده وقضى قضية واحدة ثم استعفى فأعفى .
وكان الإمام أحمد إذا ذكره قال : (( ذاك السيد عرض على الكفر فلم يقبل ، وعرضت عليه الدنيا فلم يقبل )) .
وقال أحمد : (( هو إمام )) .
قال محمد بن بشار بندار : (( حفاظ الدنيا أربعة : أبو زرعة بالري ، ومسلم بن الحجاج بنيسابور ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند ، ومحمد بن إسماعيل ببخارى . قال بندار : وهم غلماني ، خرجوا من تحت كرسي )) .
وروي عن الإمام أحمد قال : (( انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان : أبي زرعة الرازي ، ومحمد بن إسماعيل ، وعبد الله ابن عبد الرحمن السمرقندي ، والحسن بن شجاع البخلي )) .
ثم قال : (( أبو زرعة أحفظهم ، والبخاري أعرفهم ، وابن شجاع للأبواب ، والسمرقندي أتقنهم )) . ذكره يحيى بن منده بإسناده .
وقال محمد بن عبد الله بن نمير : (( غلبنا عبد الله بن عبد الرحمن بالحفظ والورع )) .
وعن أبي حاتم الرازي قال : (( محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق ، ومحمد بن يحيى أعلم من بخراسان اليوم ، ومحمد بن أسلم أورعهم ، وعبد الله بن عبد الرحمن أثبتهم )) .
وعنه قال : (( عبد الله بن عبد الرحمن إمام أعل زمانه )) .
وعن رجاء بن المرجا قال : (( رأيت أحمد ، وإسحاق ، وابن المديني ، والشاذكوني ، فما رأيت أحفظ من عبد الله ، - يعني الدارمي - .
وعن رجاء أيضاً قال : (( ما رأيت أحداً أعلم بحديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من عبدالله بن عبد الرحمن )) .
وعن أبي حامد الشرقي قال : (( إنما أخرجت خراسات من أئمة الحديث خمسة رجال : محمد بن يحيى ، ومحمد بن إسماعيل ، وعبد الله بن عبد الرحمن ، ومسلم بن الحجاج ، وإبراهيم بن أبي طالب))
وقال ابن حبان : (( كان عبد الله بن عبد الرحمن من الحفاظ المتقنين ، وأهل الورع في الدين ، ممن حفظ وجمع ، وتفقه وصنف وحدث ، وأظهر السنة في بلده ودعا إليها ، وذب عن حريمها ، وقمع من خالفها )) .
وقال محمد بن إبراهيم بن منصور الشيرازي : (( كان عبد الله ابن عبد الرحمن على غاية من العقل والديانة ، من يُضرب به المثل في الحلم والرزانة ، والحفظ والعبادة والزهادة ، أظهر علم الحديث والآثار بسمرقند ، وذب عنها الكذب ، وكان مفسراً كاملاً ، وفقهياً عالماً . رحمه الله تعالى )) .

*     *     *

* فصل من قوانين رواية الحديث *
قال أبو عيسى رحمه الله :
( والقراءة على العالم إذا كان يحفظ ما يقرأ عليه ، أو يمسك أصله فيما يقرأ عليه إذا لم يحفظ ، هو صحيح عند أهل الحديث ، مثل السماع .
حدثنا حسين بن مهدي البصري ثنا عبد الرزاق أنبا ابن جريج قرأت على عطاء بن أبي رباح ، فقلت له : كيف أقول ؟ قال : (( قل : ثنا )) .
حدثنا سويد بن نصر أنا علي بن الحسين بن واقد عن أبي عصمة عن يزيد النحوي عن عكرمة أن نفراً قدموا على ابن عباس من أهل الطائف بكتب من كتبه ، فجعل يقرأ عليهم ، فيقدم ويؤخر ، فقال : (( إني بليت بهذه المصيبة ، فاقرأوا عليّ ، فإن إقراري بها كفراءتي عليكم )) .
حدثنا سويد بن نصر أنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن منصور بن المعتمر قال : (( إذا ناول الرجل كتابه آخر فقال : ارو هذا عني فله أن يرويه )) .
قال أبو عيسى : وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : (( سألت أبا عاصم النبيل عن حديث قال : إقرأ علي ، فأحببت أن يقرأ هو ، فقال : أنت لا تجيز القراءة ، وكان سفيان الثوري ومالك بن أنس يجيزان القراءة ؟! )) .
حدثنا أحمد بن الحسن ثنا يحيى بن سليمان الجعفي المصري قال : قال عبد الله بن وهب : (( ما قلت : ثنا ، عهو ما سمعت مع الناس ، وما قلت : حدثني فهو ما سمعت وحدي ، وما قلت : أنا فهو ما قرئ على العالم وأنا شاهد ، وما قلت : أخبرني فهو ما قرأت على العالم يعني أنا وحدي )) .
سمعت أبا موسى محمد بن المثنى يقول سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول : (( ثنا أنا وحدي )) .
قال أبو عيسى : (( وكنا عند أبي مصعب المديني ، فقرئ عليه بعض حديثه ، فلما فرغ منه ، كيف نقول ؟ قال قل : ثنا أبو مصعب )) .
قال أبو عيسى : وقد أجاز بعض أهل العلم الإجازة . وإذا أجاز العلم لأحد أن يروي عنه شيئاً من حديثه فله أن يروي عنه .
حدثنا محمود بن غيلان أنا وكيع عن عمران بن حدير عن أبي مجلز عن بشير بن نهيك قال : (( كتبت كتاباً عن أبي هريرة ، فقلت : أرويه عنك ؟ قال نعم )) .
أخبرنا محمد بن إسماعيل الواسطي ثنا محمد بن الحسن الواسطي عن عوف الأعرابي قال قال رجل للحسن : (( عندي بعض حديثك ، أرويه عنك ؟ قال : نعم )) .
قال أبو عيسى : ومحمد بن الحسن الواسطي إنما يعرف بمحبوب بن الحسن ، وقد حدث عنه غير واحد من الأئمة .
حدثنا الجارود نا أنس بن عياض عن عبيد الله بن عمر قال : أتيت الزهري بكتاب ، فقلت : هذا من حديثك ، أرويه عنك ؟ قال : نعم )) .
حدثنا أبو بكر بن علي بن عبد الله عن يحيى بن سعيد قال : (( جاء ابن جريج إلى هشام بن عروة بكتاب ، فقال : هذا حديثك ، أرويع عنك ؟ قال : نعم )) .
قال يحيى فقلت في نفسي : (( لا أدري أيهما أعجب أمراً )) .
قال علي : (( سألت يحيى عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني ؟ فقال : ضعيف . فقلت : إنه يقول : أخبرني ؟ قال : لا شئ ، إنما هو كتاب دفعه إليه )) ) .
ذكر الترمذي رحمه الله تعالى ههنا مسائل من مسائل تحمل الحديث وروايته .

المسألة الأولى : مسألة العرض

وهو القراءة على العالم

وقد ذكر أنه صحيح عند أهل الحديث ، مثل السماع من لفظ العالم ، وهذا يشعر بحكاية الإجماع على ذلك . وقد ذكر جوازه عن عطتء ، وسفيان الثوري ، ومالك ، وابن وهب .
وأما الأثر الذي أسنده عن ابن عباس فلا يصح . وأبو عصمة – في إسناده – هو نوخ بن أبي مريم .
وقد خرجه عبد الغني من طريق نعيم بن حماد ثنا نوح بن أبي مريم هن يزيد النحوي به ، فذكره .
وخرّج أيضاً من طريق نعيم بن حماد ثنا نوح بن أبي مريم عن أبي إسحاق عن هبيرة عن علي قال : (( القراءة على العالم والسماع منه بمنزلة )) .
ونوح بن أبي مريم مشهور بالكذب ووضع الحديث .
وخرجه أبو بكر الخطيب من طريق سلم بن سالم عن نوه بن أبي مريم ، به .
وخرج أيضاً حديث ابن عباس من طريق الحسين بن الحسن الأشقر عن سلم بن سالم عن زياد بن أبي أبي مريم عن يزيد النحوي به ، ثم ثال : (( هكذا قال : عن زياد بن أبي مريم ، والصواب : نوح ابن أبي مريم )) .
وخرّج الخطيب أيضاً من طريق أبي مقاتل السمرقندي عن سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن علي قال : (( القراءة على العالم أصح من قراءة العالم بعد ما أقوّ أنه حديثه )) .
وهذا أيضاً كب على سفيان ، وأبو مقاتل قد تقدم أنه منهم بالكذب .
وخرج الرامهرمزي في كتابه المحدث الفاصب من طريق محمد بن منصور الجوّاز عن يحيى بن سليم عن ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : (( اقرؤا عليّ ، فإن قراءتكم عليّ كفراءتي عليكم )) .
ويحيى بن سليم تركه أحمد . ولعل ابن جريج دلسه عن غير ثقة .
وخرج الخطيب من طريق إسحاق بن الضيف عن إبراهيم بن الحكم حدثني أبي عن عكرمة قال : قال ابن عباس : (( اقرؤا عليّ ، فإن قراءتكم عليّ كفراءتي عليكم )) .
وإبراهيم بن الحكم ضعيف .
ورواه أيضاً حفص بن عمر العدئي – وهو ضعيف – عن الحكم بن أبان بنحو سياق أبي عصمة نوح بن أبي مريم ، خرجه البيهقي من طريقه ولا يصح هذا عن علي ، ولا عن ابن عباس .
وقد روى عن أبي هريرة من طريق علي بن معبد : ثنا شعيب بن إسحاق الدمشقي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة إن شاء الله عن بشير بن نهيك قال : (( كنت آتي أبا هريرة فآخذ منه الكتب ، فأنسخها ، ثم أقرؤها عليه ، فأقول : هذه سمعتها منك ؟ فيقول : نعم )) : هذا إسناد مشكوك فيه ، والصحيح عن بشير بن نهيك خلاف هذا اللفظ ، وسنذكره )) .
وقد روي عن طائفة من التابعين ومن بعدهم .
قال مروان بن معاوية عن عاصم الأحول : (( قرأت على الشعبي أحاديث ، فأجازها لي )) .
وروي أيضاً عن مروان إسماعيل عن الشعبي مثله .
وروى أبو بحمه حدثنا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين أنه كان يجيز العرض .
وروى داود عن عطاء المديني – وفيه ضعف – عن هشام بن عروة عن أبيه قال : (( عرض الكتاب والحديث سواء )) .
وعن جعفر بن محمد عن أبيه مثله .
وروى حنبل بن إسحاق والأثرم قالا : نا أبو عبد الله نا محمد ابن الحسن الواسطي ثنا عوف أن رجلاً قال للحسن : (( معي أحاديث فإن لم تكن ترى بالقراءة بأساً قرأت عليك . قال : ما أبالي قرأت عليك ، أو قرأت عليّ وأخبرتك أنه حديثي ، أو حدثتك به .
قال : يا أبا سعيد ، فأٌول : حدثني الحسن ؟ قال : نعم )) .
ورواه يحيى بن معين عن محمد بن الحسن الواسطي أيضاً .
وخرجه البخاري في صحيحه عن محمد بن سلام نا محمد ابن الحسن الواسطي عن عوف عن الحسن قال : (( لا بأس بالقراءة على العالم )) .
ومحمد بن الحسن الواسطي هو الذي ذكره الترمذي هاهنا أنه يقال له : محبوب . وقد قال ابن معين : لا بأس به ، وخرج به البخاري في صحيحه ، وضعفه النسائي .
وهذا يخالف اللفظ الذي خرجه الترمذي عن محمد بن إسماعيل ، وهو الحسّاني .
وقد رواه محمد بن مخلد العطار عن الحسّلني كما رواه عنه الترمذي ، إلا أن لفظه : (( قال رجل للحسن : إن عندي كتاباً من علمك فأرويه عنك ؟ قال : نعم )) .
وفي روايته أن محمدبن الحسن الواسطي هو المزني . والمزني كان قاضي واسط ، ليس هو محبوباً ، وهو أيضاً ثقة ، خرج له البخاري ، وقال أحمد : (( ليس به بأس )) . وقيل : إن محبوباً بصري ليس بواسطي .
وخرج الرامهرمزي هذا الحديث من طريق إسحاق بن عيسى نا محمد بن الحصين الواسطي قال : (( وقال : في موضع آخر : ثناء ) محمد بن يزيد الواسطي ثنا عوف فذكره .
قلت : ما كأن إسحاق حفظ نسب هذا الرجل .
وممن روي عنه الرخصة في العرض :
من التابعين ومن بعدهم : مكحول ، والزهري ، وأيوب السختياني ، ومنصور بن المعتمر ، وشريك . وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، ومسعر ، وأبي حنيفة ، والليث بن سعد ، وابن عيينة ، والشافعي ، وأحمد ، وغيرهم من أهل العلم .
وكان شعبة يبالغ فيقول : (( القراءة عندي أثبت من السماع )) ، ووافقه على ذلك يحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي .
وروي نحوه عن ابن أبي ذئب ، وأبي حنيفة ، ومالك ، والليث ، والثوري . وهو قول أبي حاتم ، وأبي عبيد .
وقال إسحاق بن هانئ : (( كنت أقرأ على أبي عبد الله – يعني أحمد – الحديث وأنا أنظر في كتابه ، وهو ينظر معي ، فقال لي : هذا أحب إلىّ من أن أقرأ أنا عليك ، قلت له أقول : حدثني ؟ قال : قل إن شئت ، ولكن أحب إليّ أن تصدق أن تقول قرأت )) .
وكره طائفة العرض :
منهم وكيع ، ومحمد بن سلاّم ، وأبو مسهر ، وأبو عاصم ، وحكي ذلك عن أهل العراق جملة ، وكان مالك ينكره عليهم .
وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال : (( لا يحل للرجل أن يوري الحديث إلا إذا سمعه من فم المحدث فيحفظه ثم يحدث به )) .
واستدل البخاري وغيره على صحة العرض بحديث ضمام بن ثعلبة ، وقد ذكر الترمذي ذلك عند تخريجه لحديثه في أول كتاب الزكاة .
واستدل مالك وغيره بعرض القرآن على القارئ ، وبقراءة الصحيفة بالدّين على من عليه الجق ، فيقر بها فيشهد عليه .
وقد اشترط الترمذي لصحة العرض على العالم أن يكون العالم حافظاً لما يعرض عليه ، أو يمسك أصله بيده عند العرض عليه إذا لم يكن حافظاً .
ومفهوم كلامه أنه إذا لم يكن المعروض عليه حافظاً ولا أمسك أصله أنه لا تجوز الرواية عنه بلك العرض .
وقد قال أحمد في رواية حنبل : (( لا بأس بالقراءة إذا كان رجل يعرف ويفهم ويبين ذلك )) .
قال سعيد بن مروان البغدادي سمعت يحيى بن إسماعيل الواسطي يقول : (( القراءة على مالك بن أنس مثل السماع من غيره )) .
وهذا يرجع إلى أصل :
وهو أن الضرير والأمي إذا لم يحفظا الحديث . فإنه لا نجوز الرواية عنهما ، ولا تلقينهما ، ولا القراءة عليهما من كتاب .
وقد نص على ذلك أحمد – في رواية عبد الله – في الضرير والأمي : لا يجوز أن يحدثا إلا بما يحفظا ، وقال : (( كان أبو معاوية الضرير إذا حدثنا بالشئ الذي نرى أنه لا يحفظه يقول : في كتابي كذا وكذا ، ولا يقول : ثنا وسمعت )) .
وكذلك قال يحيى بن معين في الضرير والأمي ، نقله عنه عبد الله بن أحمد ، وعباس الدوري .
وقال أبو خيثمة : (( كان يعاب على يزيد بن هارون أنه كان بعد ما أضر يأمر من يلقنه حديثه من كتابه ويتحفظه )) .
وأنكر طائفة على من كان يكتب من كتب موسى بن عبيدة الربذي ثم يقرؤها عليه ، وكان أعمى .
وذكر ابن المديني عن أبي معاوية الضرير أنه قال : (( ما سمعته من الشيخ وحفظته عنه قلت : ثنا ، وما قرئ عليّ من الكتب قلت : ذكر فلان )) .
وكان عبد الرزاق يتلقن ممن يثق به ، كما كان يزيد ابن هارون يفعله .
وعلى قول هؤلاء يجوز العرض على الشيخ ، وإن كان ضريراً لا يحفظ ، أو أمياً لا كتاب بيده إذا كان العرض ممن يوثق به .
وقد رخص ابن معين في السماع ممن يتلقن إذا كان يعرف حديثه ، ويعرف ما يدخل عليه ، فإن لم يعرف ما يدخل عليه فإنه كرهه .
وحاصل الأمر أن الناس ثلاثة أقسام :
حافظ متقن من يحدث من حفظه ، فهذا لا كلام فيه .
وحافظ نسي فلقن حتى ذكر ، أو تذكر حديثه من كتاب ، فرجع إليه حفظه الذي كان نسيه ، وهذا أيضاً حكمه حكم الحافظ ، وكان شعبة أحايناً يتذكر حديثه من كتاب .
ومن لا يحفظ شيئاً وإنما يعتمد على نجرد التلقين ، فهذا هو الذي منع أحمد ويحيى من الأخذ عنه . واختلف العلماء أيضاً في :

 



التحديث من الكتاب

إذا كان المحدث لا يحفظ ما فيه ، وهو ثقة

فقال مالك : لا يؤخذ العلم عمن هذه الصفة صفته ، لأني أخاف أن يزاد في كتبه بالليل .
وحُكي أيضاً عن أبي حنيفة رحمه الله .
وعلى قول هؤلاء فلا يجوز العرض على من لا يحفظ ، وأن أمسك الكتاب ، كما لا يجوز له أن يحدث من الكتاب ولا يحفظ ، وأولى .
وهكذا اشترط عثمان بن أبي شيبة في العرض أن يكون العالم يعرف ما يُقرأ عليه . ورخص طائفة في التحديث من الكتاب لمن لا يحفظ .
منهم : مروان بن محمد ، وابن عيينة ، وابن مهدي ، ويحيى بن معين ، وغيرهم .
وهذا إذا كان الحفظ معروفاً موثوقاً به ، والكتاب محفوظاً عنده . فإن غاب عنه كتابه ثم رجع إليه فكان كثير منهم يتوقى الرواية منه خشية أن يكون غيّر فيه شئ .
منهم : ابن مهدي ، وابن المبارك ، والأنصاري .
ورخص فيه بعضهم ، منهم : يحيى بن سعيد .
وقال أحمد – في رجل يكون له السماع مع الرجل أله أن يأخذه بعد سنين ؟ - قال : (( لا بأس به إذا عرف الخط )) .
قال أبو بكر الخطيب : (( إنما يجوز هذا إذا لم ير فيه أثر تغيير حادث من زيادة أو نقصان أو تبديل ، وسكنت نفسه إلى سلامته ، قال : وعلى ذلك يحمل كلام يحيى بن سعيد )) .
قلت : (( وكذا إن كان له فهم ومعرفة بالحديث وإن لم يكن يحفظه .
وقد قال أبو زرعة لما رُدّ عليه كتابه ورأى فيه تغيراً : (( أنا أحفظ هذا ، ولو لم أحفظه لم يكن يخفى عليّ )) .
وقد قال أحمد في الكتاب – قد طال على الإنسان عهده لا يعرف بعض حروفه فيخبره بعض أصحابه ، ما ترى في ذاك ؟ - قال : (( إذا كان يعلم كما في الكتاب فليس به بأس )) . نقله عنه ابن هانئ .

واختلفوا في المحدث الذي لا يحفظ

إذا حدث من كتاب غيره
فرخص طائفة فيه إذا وثق بالخط ، منهم ابن جريج ، وهو اختيار الإسماعيلي .
وقال أحمد : (( ينبغي للناس أن يتقوا هذا )) .
وكان يحيى بن سعيد يعيب قوماً يفعلونه .
وقال المروذي : سمعت أبا عبد الله قال : (( ما بالكوفة مثل هنّاد بن السري هو شيخهم )) . فقيل له : (( هو يحدث من كتاب ورّاقة )) . فجعل يسترجع ، ثم قال : (( إن كان هكذا لم يكتب عن هنّاد شئ )) .
هذا كله إذا قرأ القارئ على العالم وليس معه أحد ، فإن كان معه أحد يسمع معه فقالت طائفة : لا بد لمن يسمع معه أن ينظر في نسخته ، وإلا فلا يصح سماعه ، منهم ابن وارة وغيره .
وكذا قالوا في المحدث إذا قرأ عليهم من كتابه ولم ينظروا فيه ، ثم نسخوا من الكتاب من غير نظر ولا حفظ . وكاذ إذا أملى المحدث فكتب عنه بعضهم ، ثم نسخ الباقون من كتابه من غير حفظ .
وذكر أحمد عن عبد الرزاق أن سفيان لما قدم عليهم اليمن جاءوا بمن يكتب ، وكانوا ينظرون في الكتاب ، فإذا فرغ ختموا الكتاب حتى ينسخوه .
وروى ابن عدي بإسناده عن معمر قال : (( اجتمعت أنا وشعبة والثوري وابن جريج فقدم علينا شيخ فأملى علينا أربعة الآلإ حديث عن ظهر قلب ، فإذا جن الليل ختمنا الكتاب فوضعناه تحت رؤوسنا ، وكان الكاتب شعبة ، ونحن ننظر في الكتاب )) .
وذكر الخلال عن علي بن عبد الصمد المكيّ قال : قلت لأحمد ابن حنبل – ونحن في مجلس نسمع فيه الحديث وأنا لا أنظر في النسخة - : (( يا أبا عبد الله ، يجزيني أن لا أنظر في النسخة فأقول : حدثنا ،مثل الصك،إذا لم ينظر فيه ويشهد ؟)) . قال لي : (( لو نظرت في الكتاب كان أطيب لنفسك )) .
وذكر ابن معين عن بن أبي ذئب أنه كان يقرأ عليهم كتاباً ، ثم يلقيه إليهم فيكتبونه ولم ينظروا في الكتاب .
وروي عن مالك ما يدل عليه ، ورخص في ذلك أكثر المتأخرين ، إذا كان صاحب الكتاب مأموناً في نفسه موثوقاً بضبطه .
وروى أحمد بن حرب الموصلي عن زيد بن أبي الزرقا حدثنا سفيانالثوري في القوم يكونون جميعاً فيأتون الرجل ومعهم حديث من حديثه في كتاب ، ويكون الكتاب مع بعضهم وهو عندهم ثقة ، وهم أكثر أن يستطيعوا أن ينظروا فيخ جميعاً ، هل يدخل عليهم أن يصدقوا صاحبهم في مسائله؟)) .
قال : إنما هو بمنزلة الشهادة )) .
خرّجه الرامهرمزي ، وحمله على أن مراد سفيه الرخصة في ذلك كما يقرأ الصك على المشهود عليه بالدين ، فيقر به فيشهد عليه ممن سمعه .
وكلام أحمد يدل على مثل ذلك أيضاً ، إلا أنه استحب للسامع أن ينظر في الكتاب لتطيب نفسه .

 

 

المسألة الثانية : فيما يقول

من عرض الحديث إذا حدّث به
وقد ذكر الترمذي بإسناده عن عطاء أنه أجاز أن يقول : ثنا .
وذكره أيضاً عن أبي مصعب صاحب مالك . وعن يحيى القطان أنه قال : ثنا وأنا واحد .
وسئل محمد بن نصر المروزي : ما الفرق بين ثنا وأنا ؟ قال : سوء الخلق ! )) .
وروى محمد بن سعيد الأصبهاني عن شريك مثل ذلك .
وذكر الترمذي أيضاً عن ابن وهب أنه كان لا يقول ثنا إلا فيما سمع من لفظ العالم مع الناس ، فإذا قرئ على العالم وهو شاهد قال : أنا . وإن سمع وحده قال : حدثني . وإن قرأ وحده قال أخبرني .
والقول الأول وهو الرخصة في أن يقول من عرض على العالم (( ثنا )) هو مروي عن الحسن ، والزهري ، ومنصور ، والثوري ، ومالك ، وابن جريج ، وأبي حنيفة .
ورواه محمد بن كثير عن الأوزاعي ، وروي أيضاً عن يحيى ابن سعيد القطان .
وقد تقدم مثله عن أحمد إلا أنه استحب أن يقول : (( قرأت )) .
وقال أحمد أيضاً : (( ثنا وأنا واحد )) . نقله هنه سلمة بن شبيب وغيره .
وكذلك قال يزيد بن هارون ، والنضر بن شميل ، وأبو عاصم النبيل ، ووهب بن جرير ، وابن عيينة ، وأبو الوليد ، وإسحاق بن إبراهيم ، وروي عن مالك وسفيان أيضاً .
وقد جمع الطحاوي في التسوية بينهما جزءاً .
وأما القول الثاني : وهو أن يقول في العرض (( أنا )) وفي السماع (( ثنا )) : فهو محكي عن كائفة من العلماء ، منهم النسائي ، وقبله يونس بن عبد الأعلى .
وحكاه بعضهم عن أكثر أصحاب الحديث .
وهو مأثور عن ابن جريج ، قال يحيى بن سعيد : (( كان ابن جريج صدوقاً ، إذا قال : (( حدثني )) فهو سماع ، وإذا قال : (( أنا )) أو (( أخبرني )) فهو قراءة . وإذا قال : (( قال )) فهو شبه الريح )) . يعني أنه لم يسمعه ولم يقرأه .
وروي عن الأوزاعي أنه أمر في الروايةعنه بذلك ، وكذا نقله الربيع عن الشافعي .
وذكر أبو داود في مسائله قال قيل لأحمد : (( كأن أخبرنا أسهل من حدثنا ؟ قال : نعم ، هو أسهل ، (( ثنا )) شديد )) .
وقال عوف : إذا قرأ العالم على العالم فقال : (( حدثني )) فهي كذيبة )) .
وكذلك روي عن حماد بن زيد أنه منع العرض أن يقول : (( ثنا )) .
وقال عثمان بن أبي شيبة : (( كان ابن المبارك يقول : قرأت على ابن جريج ، ولا يقول : أنا )) .
وقال أحمد في رواية أبي داود : (( يعجبني أن يقول : كما فعل ، يقول : قرأت )) .
وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله : (( إذا سمعت من المحدث فقل : (( ثنا )) . وإذا قرأت عليه فقل : (( قرأت )) وإذا قُرئ عليه فقل : (( قرئ عليه )) . قال : وأحب إليّ أن يبين كما كان )) .
ولكن هذ محمول منه على الاستحباب كما تقدم ذلك صريحاً عنه ، ومن أصحابنا من حمله على الوجوب .
وقال أبو القاسم البغوي : (( كان أحمد لا يرى في العرض والإجازة (( أنا )) ولا (( ثنا )) ، إنما رأيه أن يبين الراوي كما كان )) .
وقرأ رجل على شريك ، ثم سأله فقال أقول : (( ثنا شريك )) . فقال : (( إذن تكذب )) .
وقال يحيى بن سعيد : (( ينبغي أن يحدث الرجل كما سمع ، فإن سمع ، يقول : ثنا . وإن عرض ، يقول : عرضت ، وإن كان إجازة يقول : أجاز لي )) .
وقال محمد بن كثير : (( سألت الأوزاعي عن الرجل يقرأ على الرجل الحديث يقول : (( ثنا )) ؟ قال : لا ، يقول كما صنع يقول : (( قرأت )) .
وقال ابن معين : (( أرى إذا قرأ الرجل على الرجل أن يقول : قرأت على فلان ، ولا يقول : ثنا ، وإذا قرئ على الرجل وهو شاهد فليقل : قُرئ على فلان وأنا شاهد ، يقول كما كان )) .
وقال أحمد بن صالح المصري فيمن قرأ على العالم : (( يقول قرأت . قيل له : فإن قال : ثنا ، قال : لا ينبغي له أن يقول إلا كما قرأ  فإن قال : حدثنا فلم يكذب ، قيل له فإن قال : أنا وأنبأنا ؟ قال : هو دون ثنا )) .
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري : (( يقول : قرأت على فلان ، ولا يقول : حدثني )) .
وقال شعبة : (( أحب إليّ أن يبين )) .
قال نعيم بن حماد : (( ما رأيت ابن المبارك قول قط ثنا كأنه يرى أنا أوسع )) .
وأما تفريق ابن وهب بين أن يكون سماعه أو عرضه وحده أو مع غيره فيقول إذا كان وحده : حدثني أو أخبرني ، وإذا كان مع غيره يقول : ثنا أو أخبرنا ، فهذا محمول على الاستحباب دون الوجوب ، وقد روي مثل ذلك عن سعيد بن أبي مريم المصري . وروي معناه عن طائفة من السلف .
قال ابن أبي خيثمة ثنا الوليد بن شجاع حدثني حمزة عن رجاء بن أبي سلمة عن ابن عون قال : (( ربما حدثنا ابن سيرين فيقول : (( حدثني أبو هريرة ، وربما قال نا أبو هريرة ، قال فيقول : كيف هذا يا أبا بكر ؟ قال : أكون وحدي فيحدثني فأقول : حدثني وأكون في جماعة فيحدثنا فأقول :ثنا .
وقال الوليد بن مزيد : (( قلت للأوزاعي : كتبت عنك حديثاً كثيراً ، فما أقول فيه ؟ )) قال : (( ما قرأته عليك وحدك فقل فيه : حدثني ، وما قرأته على جماعة أنت فيهم فقل فيه : ثنا ، وما قرأته عليّ وحدك فقل فيه : أخبرني ، وما قرأ عليّ جماعة أنت فيهم فقل فيه : أنا ، وما أجزته لك وحدك فقل فيه : خبّرني ، وما أجزته لجماعة أنت فيهم فقل فيه : خبّرنا )) .
وخرّج الخطيب كلام ابن وهب الذي خرجه الترمذي من طريق ابن أخي ابن وهب عنه ، ثم قال : (( هذا هو المستحب ، وليس بواجب عند أهل العلم )) .
ثم ذكر بإسناده عن أحمد بن صالح أنه أجاز لمن سمع وحده أن يقول : (( ثنا )) ولمن سمع مع جماعة أن يقول : (( حدثني )) .
وعن أبي داود قال : قلت لأبي عبد الله يعني أحمد : (( إذا سمع الرجل وحده يقول : نا فلان ؟ )) قال : (( لا بأس )) . ومن طريق الأثرم قال قلت لأبي عبد الله : (( أليس هذا جائزاً أن يقول حدثني وهو ينوي أنه قد حدثه فيمن حدث ، ويقول أشهدني وقد أشهد جماعة ؟ )) قال : (( فظننت أنه سهل في ذلك )) .
وعن ابن المبارك قال : (( إذا حدث الرجل جماعة فليقل كل منهم حدثني )) .
وعن يحيى بن سعيد أنه رخص فيه أيضاً . قال أبو عبيد : (( كنت أسمع ابن المبارك كثيراً يقول : أخبرني . وكنت أرى أنه سمعه وحده ، حتى أخبروني أنه كان يقول إذا حدثنا فقد حدث كل واحد منا على حياله ، فلهذا استجاز أن يقول )) .
وذكر البيهقي قول ابن وهب وسعيد بن أبي مريم الذي تقدم ذكره ، وقال : هذا تفصيل حسن وعليه أدركنا مشايخنا . وهو معنى قول أحمد والشافعي رحمهما الله )) .
وذكر عبد الغني بن سعيد قا ل: سمعت الوليد بن القاسم يقول سمعت أبا عبد الرحمن النسائي يقول : (( كان إسحاق بن راهويه يقول : إذا قرأت فقل : قرأت ، وإذا قُرئ عليك فقل : قرئ ، وإذا حدثك فقل : حدثني ، وإذا حدثكم فقل : حدثنا ، قل كما كان )) .
قال عبد الغني : (( وبلغني عن أحمد بن حنبل نحوه )) .
وروى بإسناده عن أبي نعيم قال : (( أتينا موسى بن علي بمكة ، فقلت : حدثك أبوك ، قال : لا ، حدث القوم وأنا فيهم ، فقلت : فكيف تقول ؟ قال : أقول سمعت أبي )) .

المسألة الثالثة : الرواية بالمناولة

وقد أسند الترمذي عن منصور بن المعتمر أنه رخص في الرواية بها . والمناولة نوع من أنواع الإجازة ، إلا أنها أرفع أنواعها .
وصورتها : أن يدفع العالم كتابه إلى رجل ويقول : له : (( هذا حديثي أو كتابي فاروه عني أو نحو ذلك )) .
وممن رأى الراوية بها أيضاً الزهري ومالك ، والأوزاعي – في المشهور عنه - ، والليث ، وأحمد .
قال المروذي : قال أبو عبد الله : (( إذا أعطيتك كتابي فقلت لك : أروه عني وهو من حديثي فما تبالي أسمعته أم لم تسمعه )) قال : فاعطاني المسند ، ولأبي طالب مناولة )) .
وقول يحيى بن سعيد في رواية ابن جريج عن عطاء الخراساني : (( إنها ضعيفة لا شئ ، إنما هي كتاب دفعه إليه )) يدل على أنه كان لا يرى الراوية بالمناولة ، إلا أن يُحمل على أنه لم يأذن له في روايته عنه )) . وفي جواز الراوية بذلك في هذه الحال خلاف بين أهل العلم ، ذكره أبو بكر الخطيب وغيره
وروى الوليد عن الأوزاعي أن المناولة يعمل بها ولا يحدث .
ومن أنواع المناولة أن يأتي الطالب إلى العالم بجزء من حديثه قد كتبه من أصل صحيح فيدفعه إلى العالم ويستجيزه إياه ، فيجيزه له ويرده إليه ، إلا أنهم اشترطوا أن ينظر فيه العالم ويصححه إن كان يحفظ ما فيه ، أو أن يقابل به أًله إن كان لا يحفظه ، وقد فعل ذلك مالك ، وأحمد ، ومحمد بن يحيى الذهلي ، واشترطه أحمد بن صالح المصري .
وقال أحمد في رواية حنبل : (( المناولة لا أدري ما هي حتى يعرف المحدث حديثه ، وما يدريه ما في الكتاب ؟ ! ، قال : وأهل مصر يذهبون إلى هذا وأنا لا يعجبني )) .
قال أبو بكر الخطيب : (( أراه أراد أن أهل مصر يذهبون إلى المناولة من غير أن يعلم الراوي هل ما في الحزء حديثه أم لا والله أعلم )) .
وهذا الذي ذكره الخطيب صحيح ، وقد اعتمد أحمد في ذلك على حكاية حكاها له ابن معين عن ابن وهب أنه طلب من سفيان ابن عيينة أن يُجيز له رواية جزء أتاه به في يده ، فأنكر ذلك ابن معين ، وقال لابن وهب : (( هذا والريح بمنزلة إ
فع إليه الجزء حتى ينظر في حديثه )) .
وقد روي عن ابن شهاب جواز ذلك أيضاً ، إلا أن الخطيب تأوله على أنه كان سبق علمه بما فيه ، وفيه بعد .
وظاهر ما أسنده الترمذي عن ابن جريج وهشام بن عروة يدل على جواز ذلك أيضاً ، وروي عن مالك ما يدل عليه .
وإن قال العالم : (( إن كانت هذه من حديثي فحدث بها )) جاز ، وفعله مالك رضي الله عنه .
وظاهر كلام أحمد يدل على أنه لا بد أن يكون المناول حاضراً ، فإن إذن له في رواية شئ غائب لم يجز ، فإنه قال في رواية الأثرم : كان شعيب بن أبي حمزة عسراً في الحديث ، فسألوه أن يأذن لهم أن يرووا عنه ، فقال : لا ترووا هذه الأحاديث عني )) . ثم كلموه وحضر ذلك أبو اليمان ، فقال لهم : (( ارووا تلك الأحاديث عني )) .
قيل لأبي عبد الله . (( مناولة ؟ )) قال : (( لو كان مناولة كان لم يعطهم كتباً ولا شيئاً ، إنما سمع هذا فقط )) .
فكان أبو اليمان بعد يقول : (( أنا شعيب )) ، فكأنه استحل ذلك بأن سمع شعيباً يقول لقوم : (( ارووه عني )) . قال : (( استحل ذلك بشئ عجيب ! )) وذكر أحمد ذلك على وجه الإنكار على أبي اليمان )) .
وحديث أبي اليمان عن شعيب متفق على تخريجه في الصحيحين ، وإذا كان حديث شعيب عندهم معروفاً وآذن لهم في روايته عنه ، فلا حاجة إلى إحضاره ومناولته ، بل هذه إجازة من غير مناولة .
والحديث الذي خرجه الترمذي عن الحسن يدل على جواز ذلك أيضاً ، إلا أن أبا اليمان كان يقول في الرواية بها : (( أنا )) .
وقد نهى عن ذلك الأوزاعي وأحمد بن صالح المصري .
ورخّص فيه آخرون ، منهم مالك ، ورواه الوليد بن مزيد عن الأوزاعي أيضاً ، وقد روي عن أحمد أيضاً .
قال صالح بن أحمد الحافظ سمعت القاسم بن أبي صالح يقول سمعت إبراهيم بن الحسين يقول سمعت أبا اليمان الحكم بن نافع يقول : (( قال لي أحمد بن حنبل : كيف سمعت الكتب من شعيب بن أبي حمزة ؟ قلت : قرأت عليه بعضه ، وبعضه قرأه عليّ ، وبعضه أجاز لي ، وبعضه مناولة . فقال : قل في كله : أنا شعيب )) .
ونقل البردعي عن أبي زرعة الرازي قال : (( لو يسمع أبو اليمان من شعيب بن أبي حمزة إلا حديثاً واحداً والباقي إجازة )) .
ومن أنواع المناولة :
أن يكتب العالم إلى رجل بشئ من حديثه ويختمه ، ويأذن له في روايته عنه .
وهي دون المناولة من يده ، وقد ري بها خلق كثير من جلة السلف والخلف . وقال أيوب ، وشبة ، ومنصور ، وغيرهم : (( إذا كتب إليك العالم فقد حدثك )) .
قال ابن وهب : (( كان يحيى بن سعيد يكتب إلى الليث بن سعد ، فيقول الليث : (( حدثني يحيى بن سعيد . وكان هشام يكتب إليه فيقول : حدثني هشام )) .
وهؤلاء منهم من طرد ذلك في باب الشهادة ، فأجاز الشهادة على الكتاب المختوم ونحوه ، وإن لم يعلم ما فيه . وحكى ذلك عن الزهري ، وهو قول أبي عبيد ، وأبي يوسف ، وخرجه طائفة من أصحابنا رواية عن أحمد .
ومنهم من فرق بين الرواية والشهادة ، فأجاز الرواية بالمناولة دون الشهادة على الخط المختوم ، وهو المشهور عن الشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة ، وغيرهم من الفقهاء .
وفرق كثير منهم بأن الرواية مبناها على المسامحة ، فإنه لا يُشترط لها العدالة الباطنة ، ويُقبل فيها قول النساء والعبيد مطلقاً . ويقبل فيها العنعنة بخلاف الشهادة .
ومنهم من فرق بأن الشهادة قد يخفى تغيرها وزيادتها ونقصها ، بخلاف الحديث ، فإنه قد حُفظ وضُبط فلا يكاد يخفى تغيره . وقيل : إن في كلام أحمد إيماء إلى هذا الفرق .
وقد جوّز كثير من العلماء العمل بالوصية المختومة ، وإن لم يشهد عليها ، وهو نص أحمد ، وقول محمد بن نصر المروزي ، وغيره .
وكذلك جوّز كثير من فقهاء الحجاز عمل القاضي بكتاي القاضي ، إذا عرف أنه كتابه من غير شهادة على ما فيه .
وقد حكى المعافى بن زكريا ذلك على جمهور فقهاء الحجاز والشام ومصر والمغرب والبصرة . وحكاه عن مالك ، والأوزاعي ، والليث ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وسمى عدداً كثيراً .
ولكن لا يلزم من جواز العمل بالخط المعروف جواز تحمل الشهادة بما لا يسمعه ، وإن جاز أن يشهد أنه خط فلان إذا عرفه .
ولعل مراد كثير ممن قال بقبول الكتاب المختوم المشهود عليه ، وإن لم يُقرأعلى الشهود أن الشاهد يشهد أن هذا كتاب فلان أو خطه ، فحينئذ يكون العمل بالخط .
وقد تقدم أن الأوزاعي فوق في المناولة بين العمل والرواية ، في رواية عنه ، فلا يلزم من جواز العمل بما عرف صحته جواز تحمله من غير تحمل له .
وأما الأثر الذي خرّجه الترمذي من ديث بشير بن نهيك عن أبي هريرة ، فقد رواه روح بن عبادة عن عمران بن حدير عن أبي مجلز قال : قال بشير بن نهيك : (( كنت أكتب بعض ما أسمع من أبي هريرة ، فلما أردت فراقة أتيت بالكتب فقرأتها عليه ، فقلت : هذا سمعته منك ؟ فقال : نعم )) .
ورواه عثمان بن الهيثم عن عمران بن بنحوه .
ورواه أبو عاصم عن عمران عن عمران بن حدير به ، وقال في حديثه : (( فلما أردت فراقة أتيته فقلت : هذا حديثك أحدث به عنط ؟ قال : نعم )) .
وهذا ليس من باب المناولة ولا من باب العرض المجرد ، بل رواية روح تدل على أنه عرض بعد سمعا ، وفي كلتا الروايتين أنه كان يكتب ما يسمع منه ، ثم أقرّ له به أبو هريرة ، وأذن له في روايته ، وهذا نهاية ما يكون من التثبيت في السماع ، مع أن البخاري قال في بشير : (( لا أرى له سماعاً من أبي هريرة )) ، نقله عنه الترمذي في العلل .






المسألة الرابعة

الرواية بالإجازة من غير مناولة

وقد ذكر الترمذي عن بعض أهل العلم إجازتها ، وقد حكاه غيره عن جمهور أهل العلم ، وحكاه بعضهم إجماعاً ، وليس كذلك . بل قد أنكر الإجازة جماعة من العلماء ، وحكي ذلك عن أبي زرعة ، وصالح بن محمد ، وإبراهيم الحربي .
وروى الربيع عن الشافعي أنه كره الإجازة . قال الحاكم : (( لقد كره المكروه عند أكثر أئمة هذا الشأن )) .
والذين أنكروا الإجازة المطلقة منهم من رخص في المناولة ، وهو قول أحمد بن صال المصري ، وروي أيضاً عن إبراهيم الحربي ، وأبي بكر البرقاني . وظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم في قصة رواية أبي اليمان عن شعيب يدل على مثل ذلك ، إلا أن يحمل إنكاره على أبي اليمان على إطلاقه لفظ الإخبار في الرواية بالإجازة ، لا على أصل الرواية بالإجازة .
وقد ذكرنا عنه رواية أخرى أنا أجاز لأبي اليمان إطلاق قول أنا فيما يرويه عن شعيب بالمناولة والإجازة .
وهو قول كثير من السلف والخلف .
وروي عن أحمد أنه أجاز أن يقول ثنا فيما يرويه بالإجازة .
وحكي أيضاً عن مالك ، والليث بن سعد ، والثوري ، وغيرهم .

*     *     *

* فصل في الحديث المرسل *

قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله :
( والحديث إذا كان مرسلاً فإنه لا يصح عند أكثر أهل الحديث ، وقد ضعفه غير واحد منهم :
أخبرنا علي بن حجر أنا بقية بن الوليد عن عتبة بن أبي حكيم قال : (( سمع الزهري إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة وهو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم . فقال الزهري : قاتلك الله يا ابن أبي فروة ! تجيئنا بأحاديث ليس لها خُطم ولا أزمّة )) .
أخبرنا أبو بكر عن علي بن عبد الله قال قال : يحيى بن سعيد : (( مرسلان مجاهد أحب إلىّ من مرسلات عطاء بن أبي رباح بكثير ، كان عطاء يخطب : يأخذ عن كل ضرب )) .
قال علي قال يحيى : (( مرسلات سعيد بن جبير أحب إلىّ من مرسلات عطاء .
قلت ليحيى : مرسلات مجاهد أحب إليك أم مرسلات طاوس ؟ قال : ما أقربهما )) .
قال علي وسمعت يحيى يقول : (( مرسلات أبي إسحاق عندي شبه لا شئ ، والأعمش ، والتيمي ، ويحيى بن أبي كثير ومرسلات ابن عيينة شبه الربح )) .
ثم قال : (( أي والله وسفياتن بن سعيد )) .
قلت ليحيى : (( فمرسلات مالك ؟ قال : هي أحب إلىّ ، ثم قال يحيى : ليس في القوم أحد أصح حديثاً من مالك )) .
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال : سمعت سحيى بن سعيد القطان يقول : (( ما قال الحسن في حديثه : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، إلا ووجدنا له أصلاً إلا حديثاً أو حديثين ))
قال أبو عيسى : ومن ضعّف المرسل فإنه ضعفه من قبل أن هؤلاء الأئمة قد حدثوا عن الثقات وغير الثقات ، فإذا روى أحدهم حديثاً وأرسله لعله أخذه من غير ثقة .
وقد تكلم الحسن البصري في معبد الجهني ، ثم روى عنه :
حدثنا بشر بن معاذ البصري ثنا مرحوم بن عبد العزيز العطار قال : حدثني أبي وعمي قالا سمعنا الحسن يقول : (( إياكم ومعبداً الجهني ، فإنه ضال مضل )) .
قال أبو عيسى : ويروى عن الشعبي قال : (( ثنا الحارث الأعور وكان كذاباً )) وقد حدث عنه . وأكثر الفرائض التي يرويها عن علي وغيره هي عنه . وقد قال الشعبي : الحارث الأعور علمني الفرائض وكان من أفرض الناس .
سمعت محمد بن بشار يقول : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : (( ألا تعجبون من سفيان بن عيينة ؟! لقد تركت الجابر الجعفي – بقوله لما روى عنه – أكثر من ألف حديث،ثم هو يحدث عنه))
قال محمد بن بشار : (( وترك عبد الرحمن بن مهدي حديث جابر الجعفي )) .
قال أبو عيسى : وقد احتج بعض أهل العلم بالمرسل أيضاً .
حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر الكوفي ، ثنا سعيد بن عامر عن شعبة عن سليمان الأعمش قال : (( قلت لإبراهيم النخعي أسند لي عن عبد الله بن مسعود . فقال إبراهيم : إذا حدثتك عن رجل عن عبد الله فهو الذي سميت ، وإذا قلت : قال عبد الله فهو عن غير واحد عن عبد الله )) ) .

*     *     *

 

 



الكلام ههنا في حكم الحديث المرسل

وقد ذكر الترمذي لأهل العلم فيه قولين :
أحدهما : أنه لا يصح ، ومراده أنه لا يكون حجة . وحكاه عن أكثر أهل الحديث .
وحكاه الحاكم عن جماعة أهل الحديث من فقهاء الحجاز ، وسمى منهم سعيد بن المسيب ، والزهري ، ومالك بن أنس ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، فمن بعدهم من فقهاء المدينة .
وفي حكايته عن أكثر من سماه نظر ، ولا يصح عن أحد منهم الطعن في المراسيل عموماً ، ولكن في بعضها .
وأسند الترمذي قول الزهري لإسحاق بن أبي فروة : (( قاتلك الله تجيئنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة )) . يريد لا أسانيد لها ، وهذا ذم لمن يرسل الحديث ولا يسنده .
وروى سلمة بن العيار عمن سمع الزهري يقول : ما هذه الأحاديث التي يأتون بها ليس لها خطم ولا أزمة )) ، يعني الأسانيد .
* تفاوت درجات المراسيل وأسباب ذلك *
وذكر الترمذي أيضاً كلام يحيى بن سعيد القطان في أن بعض المرسلات أضعف من بعض ، ومضمون ما ذكره عنه تضعيف مرسلات عطاء ، وأبي إسحاق ، والأعمش ، والتيمي ، ويحيى بن أبي كثير ، والثوري ، وابن عيينة . وأن مرسلات مجاهد ، وطاووس ، وسعيد بن المسيب ، ومالك ، أحب إليه منها .
وقد أشار إلى علة ذلك بأن عطاء كان يأخذ عن كل ضرب ، يعني أنه كان يأخذ عن الضعفاء ، ولا ينتقي الرجال ، وهذه العلة مطردة في أبي إسحاق ، والأعمش ، والتيمي ، ويجيى بن أبي كثير ، والثوري ، وابن عيينة ، فإنه عرف منهم الرواية عن الضعفاء أيضاً .
وأما مجاهد ، وطاووس ، وسعيد بن المسيب ، ومالك ، فأكثر تحرياً في رواياتهم ، وانتقاداً لمن يروون عنه ، مع أن يحيى بن سعيد صرّح بأن الكل ضعيف .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل ثنا علي ابن المديني قال : قلت ليحيى : (( سعيد بن المسيب عن أبي بكر ؟ )) ، قال : (( ذلك شبه الريح )) .
قال وسمعت يحيى يقول : (( مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلىّ من سفيان عن إبراهيم . قال يحيى : وكل ضعيف )) .
قال وسمعت يحيى يقول : (( سفيان عن إبراهيم شبه لا شئ ، لأنه لو كان فيه إسناد صاح به )) .
قال : وقال يحيى : (( أما مجاهد عن علي فليس بها بأس ، قد أسند عن ابن أبي ليلى عن علي )) .,
وأما عطاء يعني علي فأخاف أن يكون من كتاب )) .
قال وسمعت يحيى يقول :(( مرسلات بن أبي خالد ليس بشئ ،ومرسلات عمرو بن دينار أحب إلىّ))
قال وسمعت يحيى يقول : (( مرسلات معاوية بن قرة أحب إلىّ من مرسلات زيد بن أسلم )) .
وذكر يحيى عن شعبة أنه كان يقول : (( عطاء عن علي إنما هي من كتاب ، ومرسلات معاوية بن قرة نرى أنه عن شهر بن حوشب .
قال ابن أبي حاتم ونا أحمد بن سنان الواسطي قال : (( كان يحيى بن سعيد لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً ، ويقول : هو بمنزلة الريح ويقول : هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشئ علقوه )) .
وكلام يحيى بن سعيد في تفاوت مراتب المرسلات بعضها على بعض يدور على أربعة أسباب :
أحدها : ما سبق من أن من عرف روايته عن الضعفاء ضعف مرسله بخلاف غيره .
والثاني : أن من عرف له إسناد صحيح إلى من أرسل عنه فإرساله خير ممن لم يعرف له ذلك . وهذا معنى قوله : (( مجاهد عن علي ليس به بأس ، قد أسند عن ابن أبي ليلى عن علي )) .
والثالث : أن من قوي حفظه يحفظ كل ما يسمعه ، ويثبت في قلبه ، ويكون فيه ما لا يجوز الاعتماد عليه ، بخلاف من لم يكن له قوة الحفظ ، ولهذا كان سفيان إذا مر بأحد يتغنى بسد أذنيه ، حتى لا يدخل إلى قلبه ما يسمعه منه فيقر فيه .
وقد أنكر مرة يحيى بن معين على علي بن عاصم حديثاً وقال : (( ليس هو من حديثك إنما ذوكرت به ، فوقع في قلبك ، فظننت أنك سمعته ولم تسمعه وليس هو من حديثك )) .
وقال الحسين بن حريث سمعت وكيعاً يقول : (( لا ينظر رجل في كتاب لم يسمعه ، لا يأمن أن يعلق قلبه منه )) .
وقال الحسين بن الحسن المروزي سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : (( كنت عند أبي عوانة فحدث بحديث عن الأعمش ، فقلت : ليس هذا من حديثك . قال : بلى . قلت : لا . قال : بلى . قلت : لا . قال : يا سلامة هات الدرج ، فأخرجت فنظر فيه فإذا ليس الحديث فيه . فقال : صدقت يا أبا سعيد ، فمن أين أتيت ؟ قلت : ذوكرت به وأنت شاب ، فظننت أنك سمعته )) .
الرابع : أن الحافظ إذا روى عن قة لا يكاد يترك اسمه ، بل يسميه ، فإذا ترك اسم الراوي دل إبهامه على أنه غير مرضي ، وقد كان يفعل ذلك الثوري وغيره كثيراً ، يكنون عن الضعيف ولا يسمونه ، بل يقولون : عن رجل )) . وهذا معن قول القطان : (( لو كان فيه إسناد لصاح به )) . يعني لو كان أخذه عن ثقة لسماه وأعلن باسمه .
وخرج البيهقي من طريق أبي قدامة السرخسي ، قال سمعت يحيى ابن سعيد يقول : (( مرسل الزهري شر من مرسل غيره ، لأنه حافظ ، وكلما يقدر أن يسمي سمى ، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه)) .
وقال يحيى بن معين : (( مراسيل الزهري ليست بشء )) .
وقال الشافعي : (( إرسال الزهري عندنا ليس بش ، وذلك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم )) .
وقد روي أيضاً تضعيف مراسيل الزهري عن يحيى بن سعيد ، وأن أحمد بن صالح المصري أنكر عليه ذلك ، لكن من وجه لا يثبت .
وأما مراسيل الحسن البصري رضي الله عنه :
ففي كلام الترمذي ما يقتضي تضعيفها مع مراسيل الشعبي ، فإنه ذكر أن الحسن ضعف معبداً ثم روى عنه ، وأن الشعبي كذب جابراً الجعفي ثم روى عنه . فتضعف مراسيلهما حينئذ .
وما ذكره عن يحيى القطان أن مراسيل الحسن وجد لها أصلاً إلا حديثاً أو حديثين يدل على أن مراسيله جيده .
وقال ابن عدي سمعت الحسن بن عثمان يقول : سمعت أبا زرعة الرازي يقول : (( كل شئ قال الحسن : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجدت له أصلاً ثابتاً ،ما خلا أربعة أحاديث)) .
وخرج عبد الغني بن سعيد من طريق نصر بن مرزوق وسلمة ابن مكتل ، قالا : سمعنا الخصيب بن ناصح يقول : (( كان الحسن إذا حدثه رجل واحد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحديث ذكره ، فإذا حدثه أربعة بحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ألقاهم ، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) .
سلمة بن مكتل مصري ذكره ابن يونس .
والخصيب بن ناصح مصري أيضاً متأخر ، لم يدرك الحسن ، إنما يروي عن خالد بن خداش ونحوه ، ويروي عنه [ أيضاً ] عبد الرحمن ابن عبد الله بن عبد الحكم .
وقال محمد بن أحمد بن محمد بن أبي بكر المقدمي سمعت علي بن المديني يقول : (( مرسلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح ، ما أقل ما يسقط منها )) .
وقال ابن عبد البر : روى عباد بن منصور سمعت الحسن قال : (( ما حدثني به رجلان قلت : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) .
وروى محمد بن موسى الحرشي عن ثمامة بن عبيدة ثنا عطية بن محارب عن يونس قال : سألت الحسن ، قلت : (( يا أبا سعيد إنك تقول قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم تدركه ؟ )) . قال : (( كل شئ سمعتني أقوله : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فهو عن علي بن أبي طالب ، غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر علياً )) . وكان في عمل الحجاج .
وهذا إسناد ضعيف ، ولم يثبت للحسن سماع من علي .
وذكر البخاري في تاريخه قال : قال الهيثم بن عبيد الصيد حدثني أبي قال قال رجل للحسن : (( إنك لتحدثنا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فلو كنت تسند لنا ! )) . قال : (( والله ما كذبناك ولا كذبنا ، لقد غزوت إلى خراسان غزوة معنا فيها ثلاثمائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) .
وهذا يدل على أن مراسيل الحسن أو أكثرها عن الصحابة . وضعّف آخرون مراسيل الحسن .
روى حماد عن ابن عون عن ابن سيرين قال : (( كان ههنا ثلاثة يصدقون كل من حدثهم : وذكر الحسن ، وأبا العالية ، ورجلاً آخر )) .
وروى جرير عن رجل عن عاصم الأحول عن ابن سيرين قال : (( لا تحدثني عن الحسن ، ولا عن أبي العالية ، فإنهما لا يباليان عمن أخذا الحديث )) .
وروى داود بن أبي هند عن الشعبي قال : (( لو لقيت هذا – يعني الحسن – لنهيته عن قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، صحبت ابن عمر ستة أشهر ، فما سمعته قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا في حديث واحد )) .
وروى شعبة عن عبد الله بن صبيح عن محمد بن سيرين قال : (( ثلاثة كانوا يصدقون من حدثهم : أنس ، وأبو العالية ، والحسن البصري )) .
قال الخطيب : (( أراد أنس بن سيرين )) . وفيه نظر .
وقال الإمام أحمد ثنا أبو أسامة عن وهيب بن خالد عن خالد الخذاء قال سمعت محمد بن سيرين يقول : كان أربعة يصدقون من حدثهم : أبو العالية ، والحسن ، وحميد بن هلال ، ورجل آخر سماه )) .
وقد كان ابن سيرين يقول : (( سلوا الحسن ممن سمع حديث العقيقة ، وسلوا الحسن ممن سمع حديث : (( عمار تقتله الفئة الباغية )) .
وقال أحمد في رواية الفضل بن زياد : (( مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات ، ومرسلات إبراهيم لا بأس بها ، وليس في المرسلات أضعف من مراسيل الحسن وعطاء بن أبي رباح ، فإنهما يخذان عن كل )) .
وقال أحمد في رواية الميموني وحنبل عنه : (( مرسلات سعيد ابن المسيب صحاح لا نرى أصح من مرسلاته . زاد الميموني : وأما الحسن وعطاء فليس هي بذاك . هي أضعف المراسيل كلها . فإنهما كانا يأخذان عن كل )) .
وقال ابن سعد : (( قالوا : ما أرسل الحسن ولم يسند فليس بحجة )) .
وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله : (( ابن جريج كان لا يبالي من أين يأخذ ، وبعض أحاديثه التي يرسلها يقول : (( أُخبرت عن فلان )) موضوعة )) .
وممن تكلم من السلف في المراسيل ابن سيرين ، وقد تقدم قوله : (( كانوا لا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة )) .
وقوله لما حدث عن أبي قلابة : (( أبو قلابة رجل صالح ، ولكن عمن أخذه أبو قلابة )) .
وكذلك تقدم قول ابن المبارك لما روي له حديث عن الحجاج بن دينار عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مفوز تنقطع فيها أعناق الإبل )) .
وقد سبق كلام شعبة ويحيى القطان .
وذلك ذكر أصحاب الشافعي أن مذهبه أن المراسيل ليست حجة .
واستثنى بعضهم مراسيل ابن المسيب . وقال : (( هي حجة عنده )) .
قال أبو الطيب الطبري : (( وعلى ذلك يدل كلام الشافعي )) .
ومن أصحابه من قال : (( إنما تصلح للترجيح لا غير )) .
وقال يونس بن عبد الأعلى : قال لي الشافعي : (( ليس المنقطع بشئ ، ما عدا منقطع ابن المسيب )) . خرجه ابن أبي حاتم في أول كتاب المراسيل عن أبيه عن يونس ، وناوله على أن مراده أنه يعتبر بمرسل سعيد بن المسيب .
وخرجه عبد الغني بن سعيد من طريق محمد بن سفيان بن سعيد المؤذن عن يونس به .
قال ابن أبي حاتم : وسمعت أبي وأبا زرعة يقولان : (( لا يحتج إلا بالمراسيل ، ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح )) .
وكذلك قال الدار قطني : (( المرسل لا تقوم به حجة )) .
وخرّج مسلم في مقدمة كتابه من طريق بن سعد عن مجاهد قال : (( جاء بشير بن كعب العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ، ولا ينظر إليه . فقال : يا ابن عباس مالي أراك لا تسمع لحديثي ، أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا تسمع ! فقال ابن عباس : (( إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا ، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف )) .
ثم قال مسلم في أثناء كلامه : (( المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة )) .
القول الثاني في المسألة : الاحتجاج بالمرسل :
وحكاه الترمذي عن بعض أهل العلم ، وذكر كلام إبراهيم النخعي : (( أنه كان إذا أرسل فقد حدثه به غير واحد . وإن أسند لم يكن عنده إلا عمن سماه )) .
وهذا يقتضي ترجيح المرسل على المسند ، لكن عن النخعي خاصة فيما أرسله عن ابن مسعود خاصة
وقد قال أحمد في مراسيل النخعي : (( لا بأس بها )) .
وقال ابن معين : (( مرسلات  المسيب أحب إلىّ من مرسلات الحسن ، ومرسلات إبراهيم صحيحه  إلا حديث تاجر البحرين ، وحديث الضحك في الصلاة )) .
وقال أيضاً : (( إبراهيم أعجب إلىّ مرسلات من سالم والقاسم وسعيد بن المسب )) .
قال البيهقي : والنخعي نجده يروي عن قوم مجهولين لا يروي عنهم غيره . مثل هني بن نويرة ، وحزامة الطائي ، وقرثع الضبي ، ويزيد بن أوس ، وغيرهم )) .
وقال العجلي : (( مرسل الشعبي صحيح لا يكاد يرسل إلا صحيحاً )) .
وقال الحسن بن شجاع البلخي سمعت علي بن المديني يقول : (( مرسل الشعبي وسعيد بن المسيب أحب إلىّ من داود بن الحصين عن عكرمة ، عن ابن عباس )) .
وقد استدل كثير من الفقهاء بالمرسل وهو الذي ذكره أصحابنا أنه الصحيح عن الإمام أحمد .
وهو قول أبي حنيفة ، وأًحابه ، وأًحاب مالك أيضاً . هكذا أطلقوه ، وفي ذلك نظر سننبه عليه إن شاء الله تعالى .
وحكى احتجاج بالمرسل عن أهل الكوفة ، وعن أهل العراق جملة .
وحكاه الحاكم عن إبراهيم المخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وأبي حنيفة ، وصاحبيه .
وقال أبو داود السجستاني في رسالته إلى أهل مكة : (( وأما المراسيل ، فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى ، مثل سفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، والأوزاعي ، حتى جاء الشافعي فتكام فيه ، وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره )) .
قال أبو داود : (( فإن لم يكن مسند ضد المراسيل ، ولم يوجد مسند فالمراسيل يحتج بها ، وليس هو مثل المتصل في القوة )) . انتهى .

واعلم أنه لا تنافي بين كلام الحفاظ

وكلام الفقهاء في هذا الباب

فإن الحفاظ إنما يريدون صحة الحديث المعين إذا كان مرسلاً ، وهو ليس بصحيح على طريقهم ، لانقطاعه وعدم اتصال إسناده إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وأما الفقهاء فمرادهم صحة ذلك المعنى الذي دل عليه الحديث .
فإذا اعضد ذلك المرسل قرائن تدل على أن له أصلاً قوي الظن بصحة ما دل عليه ، فاحتج به مع ما اختلف به من القرائن .

وهذا هو التحقيق في الاحتجاج بالمرسل عند الأئمة

كالشافعي وأحمد ، وغيرهما ، مع أن في كلام الشافعي ما يقتضي صحة المرسل حينئذ .
وقد سبق قول أحمد : (( مرسلات ابن المسيب صحاح )) .
ووقع مثله في كلام ابن المديني ، وغيره .
قال ابن المديني – في حديث يرويه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه - : (( هو منقطع ، وهو حديث ثبت )) .
قال يعقوب بن شيبة : (( إنما استجاز أن يدخلوا حديث أبي عبيدة عن أبيه في المسند – يعني في الحديث المتصل ـ لمعرفة أبي عبيدة بحديث أبيه وصحتها ، وأنه لم يأت فيها بحديث منكر )) .
وقد ذكر ابن جرير وغيره : (( أن إطلاق القول بأن المرسل ليس بحجة ، من غير تفصيل بدعة حدثت بعد المائتين )) .

* تحقيق مذهب الشافعي وأحمد في المرسل *

ونحن نذكر كلام الشافعي وأحمد في ذلك بحروفه :
قال الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة : (( والمنقطع مختلف ، فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من التابعين فحدث حديثاً منقطعاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اعتبر عليه بأمور ، منها :
أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث فإن شركه الحفاظ المأمونون ، فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمثل معنى ما روى ، كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه .
وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك ، ويعتبر عليه بأن ينظر هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم من غير رجاله الذي قبل عنهم ، فإن وجد ذلك كانت دلالة تقوي له مرسله ، وهي أضعف من الأولى .
وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قولاً له ، فإن وجد يوافق ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، كانت في هذا دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل إن شاء الله .
وكذلك إن وجد عوام أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
ثم يعتبر عليه بأن يون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولاً ، ولا مرغوباً عن الرواية عنه ، فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه . ويكون إذا شرك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه ، فإن خالفه وجد حديثه أنقص ، كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه .
ومتى خالف ما وسفت أصرّ بحديثه حتى لا يسمع أحداً قبول مرسله )) .
قال : (( وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله ، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت بها ثبوتها بالمتصل .
وذلك أن معنى المنقطع مغيب ، يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب عن الرواية عنه إذا سمي ، وأن بعض المنقطعات وإن وافقه مرسل مثله ، فقد يحتمل أن يكون مخرجهما واحداً من حيث لو سمي لم يقبل .
وأن قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا قال برأيه , لو وافقه لم يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظر فيها ، ويمكن أن يكون إنما غلط به حين يسمع قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوافقه ، ويحتمل مثل هذا فيمن يوافقه بعض الفقهاء ))
قال : (( فأما من بعد كبار التابعين ، فلا أعلم منهم أحداً يقبل مرسله ، لأمور .
أحدها : أنهم أشد تجوزاً فيمن يروون عنه .
والآخر : أنهم توجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف للوهم ، وضعف من يقبل عنه )) .
انتهى كلامه . وهو كلام حسن جداً ، ومضمونه أن الحديث المرسل يكون صحيحاً ، ويقبل بشروط : منها في نفس المرسل وهي ثلاثة :
أحدها : أن لا يعرف له رواية عن غير مقبول الرواية ؛ من مجهول أو مجروح .
وثانيها : أن لا يكون ممن يخالف الحفاظ إذا أسند الحديث فيما أسنده ، فإن كان ممن يخالف الحفاظ عند الإسناد لم يقبل مرسله .
وثالثها : أن يكون من كبار التابعين ، فإنهم لا يروون غالباً إلا عن صحابي أو تابعي كبير ، وأما غيرهم من صغار التابعين ومن بعدهم فيتوسعون في الرواية عمن لا تقبل روايته .
وأيضاً فكبار التابعين كانت الأحاديث في وقتهم الغالب عليها الصحة ، وأنا من بعدهم فانتشرت في أيامهم الأحاديث المستحيلة ، وهي الباطلة الموضوعة ، وكثر الكذب حينئذ .
فهذه شرائط من يقبل إرساله .
وأما الخبر الذي يرسله ، فيشترط لصحة مخرجه وقبوله أن يعضده ما يدل على صحته وأن له أصلاً ، والعاضد له أشياء :
أحدها ؛ وهو أقواها : أن يسنده الحفاظ المامونون من وجه أخر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمعنى ذلك المرسل ، فيكون دليلاً على صحة المرسل ،  وأن الذي أ{سل عنه كان ثقة ، وهاذ هو ظاهر كلام الشافعي .
وحينئذ فلا يرد على ذلك ، ما ذكره المتأخرون أن العمل حينئذ إنما يكون بالمسند دون المرسل .
وأجاب بعضهم بأنه قد يسنده من لا يقبل بانفراده فينضم إلى المرسل فيصح فيحتج بها حينئذ .
وهذا ليس بشئ ، فإن الشافعي اعتبر أن يسنده الحفاظ المأمونون . وكلامه إنما هو في صحة المرسل وقبوله ، لا في الاحتجاج للحكمالذي دل عليه المرسل ، وبينهما بون .
وبعد أن كتبت هذا وجدت أبا عمرو بن الصلاح ، قد سبق إليه وفي كلام أحمد إيماء إليه ، فإنه ذكر حديثاً رواه خالد عن أبي قلابة عن ابن عباس ، فقيل له : سمع أبو قلابة من ابن عباس أو رآه ؟ قال ؟ لا ، ولكن الحديث صحيح عنه ، يعني عن ابن عباس . وأشار إلى أنه روي عن ابن عباس من وجوه آخر .
[ ثم وجدت في كلام أبي العباس بن سريج – في رده عل أبي بكر بن داود ما عاترض به على الشافعي – أن مراد الشافعي أن المرسل للحديث يعتبر أن توجد مراسيله توافق ما أسنده الحفاظ المأمونون ، فيستدل بذلك على أن لمراسيله أصلاً ، فإذا وجدنا له مرسلاً بعد ذلك قبل ، وإن لم يسنده الحفاظ ، وكأنه يعتبر أن يوجد الغالب على مراسيله ذلك ، إذ لو كان معتبراً في جميعها لم يقبل له مرسل حتى يسنده الثقات ، فيعود الإشكال .
وهذا الذي قاله ابن سريج مخالف لما فهم الناس من كلام الشافعي ، مع مخالفته لظاهر كلامه . والله أعلم ] .
والثاني : أن يوجد مرسل آخر موافق له ، عن عالم يروي عن غير من يروي عنه المرسل الأول فيكون ذلك دليلاً على تعدد مخرجه ، وأن له أصلاً ، بخلاف ما إذا كان المرسل الثاني لا يروي إلا عمن يروي عنه الأول ، فإن الظاهر أن مخرجهما واحد لا تعدد فيه . وهذا الثانيأضعف من الأول .
والثالث : أن لا يجد شئ مرفوع يوافق ، لا مسند ولا مرسل ، لكن يوجد ما يوافق من كلام بعض الصحابة ، فيستدل به على أن للمرسل أصلاً صحيحاً أيضاً . لأن الظاهر أن الصحابي إنما أخذ قوله عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
والرابع : أن لا يجد للمرسل ما يوافقه لا مسند ولا مرسل ولا قول صحابي ، لكنه يوجد عامة أهل العلم على القول به ، فإنه يدل على أن له أصلاً ، وأنهم مسندون في قولهم إلى ذلك الأصل .
فإذا وجدت هذه الشرائط دلت على صحة المرسل وأنه له أصلاً ، وقبل واحتج به .
ومع هذا فهو دون المتصل في الحجة ، فإن المرسل وإن اجتمعت فيه هذه الشرائد فإنه يحتمل أن يكون في الأصل مأخوذاً عن غير من يحتج به .
ولو عضده حديث متصل صحيح ، لأنه يحتمل أن لا يكون أصل المرسل صحيحاً .
وإن عضده مرسل فيحتمل أن يكون أصلهما واحداً وأن يكون كتلقى عن غير مقبول الرواية .
وإن عضده قول صحابي فيحتمل أن الصحابي قال برأيه من غير سماع من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فلا يكون في ذلك ما يقوي المرسل ، ويحتمل أن المرسل لما سمع قول الصحابي ظنه مرفوعاً فغلط ورفعه ، ثم أرسله ولم يسم الصحابي . فما أكثر ما يغلط في رفع الموقوفات .
وإن عضده موافقة قول عامة الفقهاء فهو كما لو عضده قول الصحابي وأضعف ، فإنه يحتمل أن يكون مستند الفقهاء اجتهاداً منهم ، وأن يكون المرسل غلط ورفع كلام الفقهاء ، لكن هذا في حق كبار التابعين بعيد جداً .
وقال الشافعي أيضاً في كتاب الرهن الصغير وقد قيل له : كيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعاً ولا تقبلوه عن غيره ؟ .    أنه ر

قال : (( لا نحفظ لابن المسيب منقطعاً إلا وجدنا ما يدل على تسديد ، ولا أثر عن أحد عرفنا عنه ، إلا عن ثقة معروف ، فمن كان مثل حاله قبلنا منقطعه )) .
وهذا موافق لما ذكره في الرسالة ، فإن ابن المسيب من كبار التابعين ، ولم يعرف له رواية عن غير ثقة ، وقد اقترن بمراسيله كلها ما يعضدها .
وقد قرر كلام الشافعي هذا البيهقي في مواضع من تصانيفه كالسنن ، والمدخل ، ورسالته إلى أبي محمد الجوبني ، وأنكر فيها على الجوبني قوله : (( لا تقوم الحجة بسوى مرسل ابن المسيب )) وأنكر صحة ذلك عن الشافعي ، وكأنه لم يطلع على رواية الربيع عنه التي قدمنا ذكرها .
قال البيهقي : (( وليس الحسن وابن سيرين بدون كثير من التابعين ، وإن كان بعضهم أقوى مرسلاً منهما ، أو من أحدهما ، وقد قال الشافعي بمرسل الحسن حين اقترن به ما يعضده في مواضع ، منها : النكاح بلا ولي ، وفي النهي عن بيع الطعام حتي يجري فيه الصاعان ، وقال بمرسل طاوس ، وعروة ، وأبي أمامة بن سهل ، وعطاء بن أبي رباح ، وعطاء بن يسار ، وابن سيرين ، وغيرهم من كبار التابعين حين اقترن به ما أكده ، ولم يجد ما هو أقوى منه ، كما قال بمرسل ابن المسيب في النهي عن بيع اللحم بالحيوان ، وأكده بقول الصديق ، وبأنه روي من وجه آخر مرسلاً ، وقال : (( مرسل ابن المسيب عندنا حسن )) .
ولم يقل بمرسل ابن المسيب في زكاة الفطر بمدين من حنطة . ولا بمرسلة في التولية قبل أن يستوفي . ولا بمرسلة في دية المعاهد .
ولا بمرسلة (( من ضرب إباه فاقتلوه )) ، لما لم يقترن بها من الأسباب ما يؤكدها ، أو لما وجد من المعارض لها ما هو أقوى منه )) انتهى ما كذره البيهقي .
وأما مرسل أبي العالية الرياحي في الوضوء من القهقهة في الصلاة فقد رده الشافعي وأحمد ، وقال الشافعي : (( حديث أبي العالية الرياحي رياح )) ، يشير إلى هذا المرسل . وأحمد رده بأنه مرسل ، مع أنه يحتج بالمراسيل كثيراً ، وإنما رداً هذا المرسل لأن أبا العالية وإن كان من كبار التابعين فقد ذكر ابن سيرين أنه كان يصدق كل من حدثه ، ولم يعضد مرسله هذا شئ مما يعتضد به المرسل ، فإنه لم يرو من وجه متصل صحيح بل ضعيف ، ولم يرو من وجه آخر مرسل ، إلا من وجوه ترجع كلها إلى أبي العالية .
وهذا المعنى الذي ذكره الشافعي من تقسيم المراسيل إلى محتج به وغير محتج به يؤخذ من كلام غيره من العلماء ، كما تقدم عن أحمد وغيره تقسيم المراسيل إلى صحيح وضعيف .
ولم يصحح أحمد المرسل مطلقاً ، ولا ضعفه مطلقاً ، وإنما ضعف مرسل من يأخذ عن غير ثقة ، كما قال في مراسيل الحسن وعطاء : (( هي أضعف المراسيل ، لأنهما كانا يأخذان عن كل )) .
وقال أيضاً : (( لا يعجبني مراسيل يحيى بن أبي كثير ، لأنه يروي عن رجال ضعاف صغار )) .
وكذا قوله في مراسيل ابن جريج وقال : (( بعضها موضوعة )) .
وقال مهنا قلت لأحمد:((لم كرهت مرسلات الأعمش .قال:كان الأعمش لا يبالي عمن حديث )) .
وهذا يدل على أنه إنما يضعف مراسيل من عرف بالرواية عن الضعفاء خاصة .
وكان أحمد يقوي مراسيل من أدرك الصحابة وأرسل عنهم ، ، قال أبو طالب قلت لأحمد : (( سعيد بن المسيب عن عمر حجة ؟ . قال : هو عندنا حجة ، قد رأى عمر وسمع منه ، وإذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل ؟ ! )) . ومراده أنه مسع منه شيئاً يسيراً ، لم يرد أنه سمع منه كل ما روى عنه ، فإنه كثير الرواية عنه ، ولم يسمع ذلك كله منه قطعاً .
ونقل مهنا عن أحمد أنه ذكر حديث إبراهيم بن محمد بن طلحة قال قال عمر : (( لأمنعن فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء )) قال فقلت له : (( هذا مرسل عن عمر ؟ قال : نعم ، ولكن إبراهيم بن محمد بن طلحة كبير )) .
وقال في حديث عكرمة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( من لم يسجد على أنفه مع جبهته فلا صلاة له )) : (( هو مرسل أخشى أن يكون ثبتاً )) .
وقال في حديث عراك عن عائشة حديث : (( حولوا مقعدتي إلى القبلة )) : (( هو أحسن ما روي في الرخصة وإن كام مرسلاً ، فإن مخرجه حسن )) .
ويعني بإرساله أن عراكاً لم يسمع من عائشة .
وقال : (( إنما يروى عن عروة عن عائشة )) ، فلعله حسنه لأن عراكاً قد عرف أنه يروي حديث عائشة عن عروة عنها .
وظاهر كلام أحمد أن المرسل عنده من نوع الضعيف ، لكنه يأخذ بالحديث إذا كان فيه ضعف ، ما لم يجبيئ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو عن أصحابه خلافه .
قال الأثرم : (( كان أبو عبد الله ربما كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفي إسناده شئ فيأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه ، مثل : حديث عمرو بن شعيب ، وإبراهيم الهجري ، وربما أخذ الحديث المرسل إذا لم يجئ خلافه .
وقال أحمد – في رواية مهنا في حديث معمر عن سالم عن ابن عمر (( أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة )) – قال أحمد : (( ليس بصحيح ،والعمل عليه ، كان عبد الرزاق يقول : عن معمر عن الزهري ، مرسلاً )) .
وظاهر هذا أنه يعمل به مع أنه مرسل وليس بصحيح ، ويحتمل أنه أراد ليس بصحيح وصله .
وقد نص أحمد على تقديم قول الصحابي على الحديث المرسل . وهكذا كلام ابن المبارك ، فإنه قد تقدم عنه أنه ضعف مرسل حجاج بن دينار ، وقد احتمل مرسل غيره ، فروى الحاكم عن الأصم ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : وجدت في كتاب أبي نا الحسن بن عيسى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فقال : (( حسن )) . فقلت لابن المبارك : (( إنه ليس فيه إسناد ؟ )) فقال : (( إن عاصماً يحتمل له أن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) . قال فغدوت إلى أبي بكر فإذا ابن المبارك قد سبقني إليه وهو إلى جنبه فظننته قد سأله عنه )) . فإذا احتمل مرسل عاصم بن بهدلة فمرسل من هو أعلى منه من التابعين أولى .
وأما مراسيل ابن المسيب فهي أصح المراسيل كما قاله أحمد وغيره ، وكذا قال ابن معين : (( أصح المراسيل مراسيل سعيد بن المسيب )) .
قال الحاكم : (( قد تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله فوجدوها بأسانيد صحيحه )) . قال : (( وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره )) ، كذا قال . وهذا وجه ما نص عليه الشافعي في رواية يونس بن عبد الأعلى كما سبق .
وقد أنكر الخطيب وغيره ذلك . وقالوا : (( لابن المسيب مراسيل لا توجد مسنده )) .
وقد ذكر أصحاب مالك : أن المرسل يقبل إذا كان مرسله ممن لا يروي إلا عن الثقات .
وقد ذكر ابن عبد البر ما يقتضي أن ذلك إجماع ، فإنه قال : (( كل من عرف بالأخذ عن الضعفاء والمسامحة في ذلك لم يحتج بما أرسله كان أو من دونه ، وكل من عرف أنه لا يأخذ إى عن ثقة فتدليسه ومرسله مقبول ، فمراسيل سعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، وإبراهيم النخعي عندهم صحاح .
وقالوا : مراسيل الحسن وعطاء لا يحتج بها ، لأنهما كانا يأخذان عن كل أحد ، وكذلك مراسيل أبي قلابة وأبي العالية .
وقالوا : لا يقبل تدليس الأعمش ، لأنه إذا وقف أحال على غير ملئ ، يعنون على غير ثقة ، إذا سألته عمن هذا ؟ قا ل: عن موسى ابن طريف ، وعباية بن ربعي ، والحسن بن ذكوان .
قالوا : ويقبل تدليس ابن عيينة ، لأنه إذا وقف أحال على ابن جريج ، ومعمر ، ونظرائهما .
ثم ذكر بعد ذلك كلام إبراهيم النخعي الذي خرجه الترمذي ههنا ، ثم قال : (( إلى هذا نزع من أصحابنا من زعم أن مرسل الإمام أولى من مسنده ، لأن في هذا الخبر ما يدل على أن مراسيل النخعي أقوى من مسانيده ، وهو لعمري كذلك ، إلا أن إبراهيم ليس بمعيار على غيره )) انتهى .
وقول من قبل مراسيل من لا يرسل إلا عن ثقة يدل على أن مذهبه أن الراوي إذا قال حدثني الثقة أنه يقبل حديثه ويحتج به ، وإن لم يسم عين ذلك الرجل ، وهو خلاف ما ذكره المت ألمتأخرون من المحدثين كالخطيب وغيره وذكره أيضاً طائفة من أهل الأصول كأبي بكر الصيرفي وغيره ، وقالوا قد يوثق الرجل من يجرحه غيره ، فلا بد من تسميته لنعرف هل هو ثقة أم لا .
أما لو علم أنه لا يرسل إلا عن صحابي كان حديثه حجة ، لأن الصحابة كلهم عدول ، فلا يضر عدم المعرفة بعين من روي عنه منهم ، وكذلك لو قال تابعي : أخبرني بعض الصحابة ، لكان حديثه متصلاً يحتج به ، كما نص عليه أحمد ، وكذا ذكره ابن عمار الموصلي ، ومن الأصوليين أبو بكر الصيرفي وغيره . وقال البيهقي : (( هو مرسل .

* فصل في أقسام الرواة من حيث الاختلاف فيهم *

وتراجم كل قسم

قال أبو عيسى رحمه الله :
( وقد اختلفوا الأئمة من أهل العلم في تضعيف الرجال ، كما اختلفوا في سوى ذلك من العلم .
ذكر عن شعبة أنه ضعّف أبا الزبير المكي ، وعبد الملك ابن أبي سليمان ، وحكيم بن جبير ، وترك الرواية عنهم ، ثم حدث شعبة عمن دون هؤلاء في الحفظ والعدالة : حدث عن جابر الجعفي ، وإبراهيم بن مسلم الهجري ، ومحمد بن عبيد الله العرزمي ، وغير واحد ممن يضعفون في الحديث .
حدثنا محمد بن عمرو بن نبهان البصري نا أمية بن خالد قال قلت لشعبة : (( تدع عبد الملك بن أبي سليمان وتحدث عن محمد بن عبيد الله العرزمي ؟ قال : نعم )) .
قال أبو عيسى : وقد كان شعبة حدث عن عبد الملك بن أبي سليمان ، ثم تركه . ويقال : إنما تركه لما تفرد بالحديث الذي روى عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( الرجل أحق بشفعته ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحد )) .
وقد ثبت غير واحد من الأئمة وحدثوا عن أبي الزبير ، وعبد الملك بن أبي سليمان ، وحكيم بن جبير
حدثنا أحمد بن منيع أنا هشيم أنا حجاج وابن أبي ليلى عن عطاء ابن أبي رباح قال : كنا إذا خرجنا من عند جابر بن عبد الله تذاكرنا حديثه ، وكان أبو الزبير أحفظنا للحديث )) .
حدثنا محمد بن أبي عمر المكي ثنا صفيان بن عيينة قال قال أبو الزبير : (( كان عطاء يقدمني إلى جابر بن عبد الله فأحفظ لهم الحديث )) .
حدثنا ابن أبي عمر ثنا سفيان قال سمعت أيوب السختياني يقول : (( حدثني أبو الزبير وأبو الزبير أبو الزبير )) . قال سفيان بيده فقبضها )) .
قال أبو عيسى : إنما يعني به الاتقان والحفظ .
ويروى عن عبد الله بن المبارك أنه قال كان سفيان يقول : (( كان عبد الملك بن أبي سليمان ميزاناً في العلم )) .
حدثنا أبو بكر عن علي بن عبد الله قال سألت يحيى بن سعيد عن حكيم بن جبير فقال : (( تركه شعبة من أجل الحديث الذي روى في الصدقة ، يعني حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( من سأل الناس وله ما يغنيه كان يوم القيامة خموشاَ في وجهه .
قالوا : يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال : خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب )) .
قال علي قال يحيى : (( وقد حدث عن حكيم بن جبير سفيان الثوري ، وزائدة )) . قال علي : (( ولم ير يحيى بحديثه بأساً )) .
أخبرنا محمود بن غيلان ثنا يحيى بن آدم عن سفيان الثوري عن حكيم بن جبير بحديث الصدقة . قال يحيى بن آدم فقال عبد الله ابن عثمان صاحب شعبة لسفيان الثوري:(( لو غير حكيم حدث بهذا )) .
فقال له سفيان : (( وما لحكيم ؟ لا يحدث عنه شعبة ؟ )) قال : نعم .
فقال سفيان الثوري : (( سمعت زبيداً يحدث بهذا عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ) .

قد تقدم أن

رواة الحديث أربعة أقسام
من هو متهم بالكذب .
ومن هو صادق لكن يغلب على حديثه الغلط والوهم لسوء حفظه . وهذا القسمان متروكان .
ومن هو صادق ويغلط أحياناً . وهذا القسم هو المحتج بحديثه .
ومن هو صادق ويخطئ كثير ويهم ، لكن لا يغلب الخطأ عليه ، وهؤلاء مختلف في الرواية عنهم والاحتجاج بهم . وسبق الكلام على ذلك كله مستوفي .

وبقي الكلام في أن بعض الرواة

يختلف الحفاظ فيه من أي هذه الأقسام هو ؟
فمنهم من يختلف فيه هل هو متهم بالكذب أم لا .
ومنهم من يختلف فيه هل هو ممن غلب على حديثه الغلط أم لا .
ومنهم من يختلف فيه هل هو ممن كثر غلطه وفحش ، أم ممن قل خطؤه وندر .
وقد ذكر الترمذي هنا بعض من اختلف في ترك حديثه وفي الرواية عنه . ونحن نذكر أمثلة هذه الأقسام الثلاثة التي ذكرناها إن شاء الله تعالى :
فمثال القسم الأول :
وهو من اختلف فيه هل هو متهم بالكذب أم لا :
عكرمة مولى ابن عباس :
اتهمه بالكذب جماعة ، منهم : سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وعطاء ، وعلي بن عبد الله ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وغيرهم .
وأنكر ذلك جماعة آخرون ، قال أيوب : (( لم يكن بكذاب ولم أكن اتهمه )) . ووثقه ابن أبي ذئب . وقال بكر المزني : (( أشهد أنه صدوق )) . ووثقه أيضاً من الحفاظ يحيى بن معين وغيره ، وخرج له البخاري في صحيحه .
وقال ابن عدي : (( إذا روى عنه الثقات فهو مستقيم الحديث ، ولم يمتنع الأئمة من الرواية عنه )) .
وقال أحمد في رواية عنه : (( عمرو بن أبي عمرو كل شئ يرويه عن عكرمة مضطرب وكذا كل من يروي عن عكرمة سماك وغيره )) . قيل له : (( فترى هذا من عكرمة أو منهم ؟ قال : (( ما أحسبه إلا من قبل عكرمة )) .
وقال أحمد بن القاسم : (( رأيت أحمد ضعف رواية عكرمة ولم ير روايته حجة )) .
قال أبو بكر الخلال : (( هذا في حديث خاص . قال : وعكرمة عند أبي عبد الله ثقة يحتج بحديثه )).
كذا قال ؛ والظاهر هو خلافه ، وقد يكون عن أحمد فيه روايتان ، فإن المروزي نقل عن أحمد أنه قال : (( عكرمة يحتج به )) .
وذكر يحيى بن معين عن محمد بن فضيل ثنا عثمان بن حكيم قال : جاء عكرمة إلى أبي أمامة بن سهل وأنا جالس عنده ، قال : (( يا أبا أمامة ، أسمعت ابن عباس يقول : ما حدثكم عكرمة عني بشئ فصدقوه فإنه لن يكذب عليّ ؟ قال نعم )) .
وقال ابن معين : (( إذا سمعت من يقع في هكرة فاتهمه على الإسلام )) .
وقال أبو حاتم الرازي : (( يحتج بحديثه إذا روى عنه الثقات قال : والذي أنكر عليه مالك وحيى بن سعيد فلسبب رأيه )) . يعني أنه نسب إلى رأي الخوارج .
وأما تكذيب ابن عمر له [ قد ] روي من وجوه لا تصح ، وقد أنكره مالك ، قال إسحاق بن عيسى قلت لمالك : (( أبلغك أن ابن عمر قال لنافع لا تكذب عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عباس ؟ )) قال : (( لا . ولكن بلغني أن ابن المسيب قال ذلك لبرد مولاه )) .
وذكر أحمد أن ابن سيرين كان يروي عنه ولا يسميه ، وكذلك مالك . وأشا رأحمد إل أنهما طعنا في مذهبه ورأيه ، لكن روي هن ابن سيرين أنه كذبه من رواية الصّلت بن دينار عنه ، والصّلت لا تقبل رواياته ، وابن سيرين لا يروي عن كذاب أبداً .
وممن اختلف في اتهامه بالكذب أيضاً محمد بن إسحاق :
وقد سبق ذكره .
ومنهم : جابر الجعفي :
وقد سبق ذكره مستوفي في أبواب الأذان .
ومنهم : كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف .
فإن الترمذي يصحح حديثه ، وقد مضى أمره غير واحد ، وتركه الأكثرون ، وضرب أحمد على حديثه ولم يخرجه في المسند .
ومنهم : إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى :
والأكثرون على اتهامه بالكذب .

ومثال القسم الثاني :
وهو من اختلف فيه هل هو ممن غلب على
حديثه الوهم والغلط أم لا :

عبد الله بن محمد بن عقيل :
وقد ذكر الترمذي في أول كتابه عن البخاري أن أحمد وإٍحاق والحميدي كانوا يحتجون بحديثه . وقد صحح الترمذي حديثه .
وقال ابن معين وغيره : (( لا يحتج به )) .
وقال الجوزجاني : (( عامة ما يروى عنه غريب )) ، وتوقف عنه .
وكذلك : عاصم بن عبيد الله العمري :
فإن الترمذي يصحح حديثه في غير موضع ، والأكثرون ذكروا أنه كان مغفلاً يغلب عليه الوهم والغلط .
قال شعبة : (( كان عاصم لو قلت له من بنى مسجد البصرة ؟ لقال : حدثني فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بناه )) .
وقال شعبة : أيضاً : (( كان عاصم لو قلت له رأيت رجلاً راكباً حماراً لقال : حدثني أبي )) .

ومثال القسم الثالث

وهو من اختلف فيه هل هو ممن كثر خطؤه
وفحش أم ممن قل خطؤه :
حكيم بن جُبير الأسدي الكوفي :
فإنه قليل الحديث ، وله أحاديث منكرة . قال محمد بن عبد الرحمن العنبري عن عبد الرحمن بن مهدي وسئل عن حكيم بن جبير فقال : (( إنما روى أحاديث يسيرة ، وفيها أحاديث منكرات )) .
وقال ابن المديني . سألت يحيى بن سعيد عنه فقال : (( كم روى ؟ إنما روى شيئاً يسيراً . وقال يحيى : وقد روى عنه زائدة . قلت ليحيى : من تركه ؟ قال : شعبة . قلت : من أجل حديث الصدقة ؟ قال : نعم . ثم قال يحيى : نحن نحدث عمن دون هؤلاء )) .
وقد خرّج الترمذي حديث الصدقة في كتاب الزكاة وحسنه . وسبق الكلام عليه هناك مستوفي .
وقد احتج به أحمد في رواية عنه ، وعضده بأن سفيان رواه عن زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، وقد أنكر ابن معين وغيره حديث زبيد هذا ، وقال ابن حبان في حكيم بن جبير : (( كان غالياً في التشيع ، كثير الوهن فيما يروي ، كان أحمد لا يرضاه )) . وخرج له ابن حبان حديث الصدقة ، وقال : (( ليس له طريق يعرف ، ولا رواية إلا من حديث حكيم بن جبير ، وحكيم هذا روى عنه الثوري والأعمش وزائدة وغيرهم ، وتركه شعبة ويحيى وابن مهدي . وقيل : إن يحيى كان يحدث عنه )) .
وقال الجوزجاني : (( هو كذاب )) .
وقد تقدم أن الترمذي حسن حديثه . وقال أحمد في رواية عنه في حديث الصدقة : (( هو حسن )) واحتج به .
وقال مرة [ في حكيم ] : (( هو ضعيف الحديث مضطرب )) .
وقال ابن معين : (( ليس بشئ )) .
وقال أبو زرعة : (( في رأيه شئ ، ومحله الصدق إن شاء الله تعالى )) .
وقال أبو حاتم (( ضعيف الحدي منكر الحديث ، له رأي غير محمود ، قال : وهو قريب من يونس من خباب ونوير بن أبي فاخته )) .
وقال النسائي : (( ليس بالقوي )) . وقال الدار قطني : (( متروك )) .

وممن اختلف في أمره ، هل هو ممن فحش خطؤه أم لا ؟

عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي :
واسم أبي سليمان ميسرة .
قال أمية بن خالد : (( قلت لشعبة : مالك لا تحدث عن عبد الملك ابن أبي سليمان ؟ قال : تركت حديثه . قلت : تحدث عن محمد بن عبيد الله العرزمي وتدعى عبد الملك بن أبي سليمان وكان حسن الحديث ! ؟ قال : من حسنها فررت ! )) . خرّجه ابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي وغيرهم .
[ و ] قال وكيع عن شعبة : (( لو روى عبد الملك بن أبي سليمان حديثاً آخر مثل حديث الشفعة لطرحت حديثه ! )) .
وقد خرج الترمذي حديث الشفعة في كتاب الأحكام والأقضية وسبق الكلام عليه هناك مستوفى .
وقد ذكر الإمام أحمد أن له منكرات ، وأنه يوصل أحاديث يرسلها غيره ، وقد ذكرنا ذلك في كتاب النكاح : في باب تنكح المرأة على ثلاث .
وقال أبو بكر بن خلاد : سمعت يحيى هو ابن سعيد يقول : (( كأن صفة حديث عبد الملك بن أبي سليمان فيها شئ منقطع يوصله ، وموصل يقطعه )) .
وقال أحمد : (( كان من الحفاظ ، وكان سفيان الثوري يسميه الميزان )) .
وذكر ابن أبي حاتم بإسناده عن نوفل بن مطهر عن ابن المبارك عن سفيان قال : (( حفاظ الناس ثلاثة : إسماعيل بن أبي خالد ، وعبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ، ويحيى بن سعيد الأنصاري )) .
ووثقه يحيى بن معين ، وسئل : أهو أحب إليك أم ابن جريج ؟ قال : كلاهما ثبتان )) .
وقال أحمد : (( هو يخالف ابن جريج في أحاديث ، وابن جريج عندنا أثبت منه )) .
وخرج له مسلم ، وإنما ترك شعبة حديثه لرواية حديث الشفعة ، لأن شعبه من مذهبه أن من روى حديثاً غلطاً مجتمعاً عليه ولم يتهم نفسه فيتركه ، ترك حديثه ، وقد ذكرنا ذلك عنه فيما تقدم .
وروى نعيم بن حماد عن ابن مهدي عن شعبة أنه سئل عمن يستوجب الترك ؟ قال : (( إذا أكثر عن المعروفين ما لا يعرف ، أو تمادى في غلط مجمع عليه فلم يشكك نفسه فيه ، أو كذاب . وسائر الناس فارو عنه )) .
وخرج أبو بكر الخطيب بإسناده عن يحيى بن معين أنه سئل عن رجل حدث بأحاديث منكرة ، فردها عليه أصحاب الحديث ، إن هو رجع عنها وقال : ظننتها ، فأما إذا أنكرتموها ورددتموها عليّ فقد رجعت عنها ؟ .
فقال : لا يكون صدوقاً أبداً ، إنما ذاك الرجل يشتبه له الحديث الشاذ والشئ فيرجع عنه . فأما الأحاديث المنكرة التي لا تشتبه لأحد فلا )) .
فقيل ليحيى : فما يبرئه قال : (( يخرج كتاباً عتيقاً فيه هذه الأحاديث ، فإذا أخرجها في كتاب عتيق فهو صدوق [ و ] قد شبه له فيهه ، وأخطأ كما يخطئ الناس ، ويرجع عنها ، وإن لم يخرجه فهو كذاب أبداً )) .
وقد ذكر فيما تقدم عن ابن المبارك : أن الحديث لا يكتب عن غلاط لا يرجع . وعن أحمد : أن الحديث لا يكتب عن رجل يغلط فيرد عليه فلا يقبل .
وأما محمد بن عبيد الله العرزمي :
الذي روى عنه شعبة وروى عنه سفيان أيضاً : فهو ابن أخي عبد الملك بن أبي سليمان المذكور قبله ، وكان شريك ينسبه إلى جده تدليساً فيقول : (( نا محمد بن أبي سليمان )) وقد تركه ابن المبارك . وكان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه .
قال يحيى : (( سألته ؟ فجعل لا يحفظ ، فأتيته بكتاب فجعل لا يحسن يقرأ ! )) .
قال وكيع : (( هو رجل صالح ، ذهبت كتبه فكان يحدث حفظاً ، فمن ذاك أتي )) .
وقال ابن نمير : (( هو رجل صدوق . ولكن ذهبت كتبه ، وكان ردئ الحفظ ، فمن ثم أنكرت أحاديثه )) .
وضعفه ابن معين ، وقال : (( ليس بشئ ، ولا يكتب حديثه )) .
وقال الفلاس والنسائي : (( متروك الحديث )) .
قال ابن عدي : (( عامة رواياته غير محفوظة )) . وقال ابن حبان : (( كان صدوقاً إلا أن كتبه ذهبت ، وكان ردئ الحفظ ، فجعل يحدث من حفظه ويهم ، فكثر المناكير في رواياته )) .
وأما الزبير : محمد بن مسلم بن تدرس المكي :
فإن شعبة ترك حديثه ، وأعتلّ بأنه رآه لا يحسن يصلي ، وبأنه رآه يزن ويسترجح في الوزن ، وبأن رجلاً أغضبه فافترى عليه وهو حاضر . قال شعبة : (( وفي صدري لأبي الزبير عن جابر أربعمائة حديث ، والله لا حدثت عنه حديثاً أبداً )) ، ولم يذكر عليه كذباً ولا سوء حفظ . وقد اختلف العلماء فيه :
قال المروذي سألت أبا عبد الله – يعني أحمد – عن أبي الزبير ؟ فقال : : (( قد روى عنه قوم واحتملوه ، روى عنه أيوب ، وغير واحد ، إلا أن شعبة لم يحدث عنه . قلت : هو لين الحديث ؟ فكأنه لينه ، قلت : هو أحب إليك ، أو أبو نضرة ؟ قال : (( أبو نضرة أحب إلىّ )) . انتهى .
وتكلم فيه أيوب أيضاً : (( قال ابن المديني ثنا سفيان ثنا أيوب ثنا أبو الزبير وهو أبو الزبير فغمزه )) . كذا خرّجه العقيلي من طريق البخاري عن علي .
وهذا خلاف ما فسره به الترمذي أنه عنى حفظه وإتقانه .
وخرّج ابن عدي هذا الأثر من طريق الترمذي عن ابن أبي عمر عن سفيان وعنده قال سفيان : (( هذه نقيصة )) وهذا خلاف ما وجدنا في نسخ كتاب الترمذي .
وقال عبد الله بن أحمد قال أبي : (( كان أيوب يقول : ثنا أبو الزبير وأبو الزبير أبو الزبير ، قلت لأبي : (( كأنه يضعفه ؟ قال : نعم )) .
وخرج العقيلي أيضاً من طريق أبي عوانة قال : (( كنا عند عمرو بن دينار جلوساً ومعنا أيوب ، فحدثنا أبو الزبير بحديث ، فقلت لأيوب : تدري ما هذا ؟ فقال : هو لا يدري ما حدث ، أدري هذا ؟! )) . وهذا يدل على أن أيوب كان يغمزه لا أنه كان يقويه .
وخرج العقيلي من طريق أبي داود أنا رجل من أهل مكة قال قال ابن جريج : (( ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى حديث أبي الزبير يروى )) .
ومن طريق نعيم بن حماد قال : سمعت سفيان يقول : (( حدثني أبو الزبير وهو أبو الزبير ، كأنه يضعفه .
وروى عبد الجبار بن العلاء نا ابن عيينة : (( حدثني عمرو ابن دينار ، وأبو الزبير . وعمرو بن دينار أوثق عندنا من أبي الزبير )) . [ و ] قال ابن خراش : وثنا زيد بن أخزم نا أبو عاصم سمعت ابن جريج يقول : (( إن أبا الزبير اتخذ جابراً مطية )) . وقد وثقه ابن معين .
وقال أحمد في رواية ابن هانئ : (( هو حجة احتج به )) .
وقال يعلى بن عطاء المكي : (( نا أبو الزبير المكي وكان أكمل الناس عقلاً وأحفظه )) .

وقال ابن عدي : (( كفى بأبي الزبير صدقاً أن يحدث عنه مالك ، فإن مالكاً لا يحدث إلا عن ثقة ، ولا أعلم أحداً من الثقات تخلف عنه إلا وقد كتب عنه ، وهو في نفسه ثقة صدوق ولا بأس به )) انتهى .
خرج حديثه مسلم ، وخرج له البخاري مقروناً .

*     *     *

* فصل في تقسيم أحاديث الترمذي واصطلاحاتها *

 قال أبو عيسى رحمه الله :
( وما ذكرنا في هذا الكتاب : حديث حسن ، فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا : كل حديث يروى لا يكون في إسناده متهم بالكذب ، ولا يكون الحديث شاذاً ، ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن .
وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث غريب ، فإن أهل الحديث يستغربون الحديث بمعان :
رب حديث يكون غريباً لا يروى إلا من وجه واحد ، مثل : ما حدث به حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ؟ فقال : (( لو طعنت في فخذها أجزأ عنك )) .
فهذا حديث تفرد به حماد بن سلمة عن أبي العشراء ، ولا يعرف لأبي العشراء عن أبيه إلا هاذ الحديث ، وإن كان هذا الحيدث مشهوراً عند أهل العلم فإنما اشتهر من حديث حماد بن سلمة ، ولا نعرفه إلا من حديثه .
ورب رجل من الأئمة يحدث بالحديث لا يُعرف إلا من حديثه ويشتهر الحديث لكثرة من روى عنه .
مثل : ما روى عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( نهى عن بيع الولاء ، وعن هبته )) .
لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار : روى عنه عبيد الله بن عمر ، وشعبة ، وسفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، وابن عيينة ، وغير واحد من الأئمة .
وروى يحيى بن سليم هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ، فوهم فيه يحيى بن سليم .
والصحيح هو عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ، هكذا روى عبد الوهاب الثقفي وعبد الله بن نمير عن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر .
وروى المؤمل هذا الحديث عن شعبة فقال شعبة : (( وددت أن عبد الله بن دينار أذن لي حتى كنت أقوم إليه فأقبّل رأسه )) .
اعلم أن الترمذي قسم – في كتابه هذا – الحديث إلى صحيح ، وحسن ، وغريب . وقد يجمع هذه الأوصاف الثلاثة في حديث واحد ، وقد يجمع منها وصفين في الحديث ، وقد يفرد أحدها في بعض الأحاديث .

* بدء ابتكار هذا التقسيم *

وقد نسب طائفة من العلماء الترمذي إلى هذا التفرد بهذا التقسيم ، ولا شك أنه هو الذي اشتهرت عنه هذه القسمة .
وقد سبقه البخاري إلى ذلك ، كما ذكره الترمذي عنه في كتاب العلل أنه قال في حديث البحر : (( هو الطهور ماؤه)):هو حديث حسن صحيح ، وأنه قال في أحاديث كثيرة :(( هذا حديث حسن )) وكذلك ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال في حديث إبراهيم بن أبي شيبان عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن أبي إدريس عن عبد الله بن حوالة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( تستجندون أجناداً .. الحديث )) . قال : (( هو صحيح حسن غريب )) .
وقد كان أحمد وغيره يقولون : (( حديث حسن )) .
وأكثر ما كان الأئمة المتقدمون يقولون في الحديث : إنه صحيح أو ضعيف . ويقولون : منكر ، وموضوع ، وباطل .
وكان الإمام أحمد يحتج بالحديث الضعيف الذي لم يرد خلافه ، ومراده بالضعيف قريب من مراد الترمذي بالحسن .
وقد فسر الترمذي ههنا مراه بالحسن ، وفسر مراده بالغريب ، ولم يفسر معنى الصحيح .
ونحن نذكر ما قيل في معنى الصحيح أولاً ، ثم نشرح ما ذكره الترمذي في معنى الحسن ، والغريب ، إن شاء الله تعالى .

* فصل في الصحيح من الحديث وما يتفرع على شروطه *

أما الصحيح من الحديث :
وهو الحديث المحتج به ، فقد ذكر الشافعي رحمه الله شروطه بكلام جامع .
قال الربيع : قال الشافعي : (( ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً .
منها : أن يكون من حدّث به ثقة في دينه ، معروفاً بالصدق في حديثه ، عاقلاً لما يحدث به . عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ .
أو أن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه ولا يحدث به على المعنى ، لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام ، وإذا أدى بحروفه لم يبق وجه يخاف فيه إحالة الحديث .
حافظاً إن حدث من حفظه ، حافظاً لكتابه إن حدث من كتابه . إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم .
برياً من أن يكون مدلساً يحدث عمن لقي ما لم يسمع منه أو يحدث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما يحدث الثقات خلافه ، ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهى بالحديث موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أو إلى من انتهى به إليه دونه ، لأن كل واحد مثبت لمن حدثه ، ومثبت على من حدث عنه )) .
قال : (( ومن كثر غلطه من المحدثين ولم يكن له أصل كتاب صحيح لم نقبل حديثه ، كما يكون من أكثر الغلط في الشهادات لم نقبل شهادته )) .
قال : (( وأقبل الحديث حدثني فلان عن فلان إذا لم يكن مدلساً )) .
(( ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته فيروايته ، وليست تلك العورة بكذب فيرد بها حديثه ، ولا على النصيحة في الصدق فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق ، فقلنا ، لا نقبل من مدلس حديثاً حتى يقول : حدثني أو سمعت )) .
فقد تضمن كلامه رحمه الله أن الحديث لا يحتج به حتى يجمع رواته من أولهم إلى آخرهم شروطاً :
أحدها : الثقة في الدين ، وهي العدالة :
وشروط العدالة مشهورة معروفة في كتب الفقه .
والثاني : المعرفة بالصدق في الحديث :ويعني بذلك أن يكون الراوي معروفاً بالصدق في روايته ، فلا يحتج بخبر من ليس بمعروف بالصدق ، كالمجهول الحال ، ولا من يعرف بغير الصدق .
وكذلك ظاهر كلام الإمام أحمد أن خبر مجهول الحال لا يصح ولا يحتج به ، ومن أصحابنا من خرّج قبول حديثه على الخلاف في قبول المرسل .
وقال الشافعي أيضاً : (( كان ابن سيرين والنخعي وغير واحد من التابعين يذهب هذا المذهب في أن لا يقبل إلا ممن عرف )) .
وقال : (( وما لقيت ولا علمت أحداً من أهل العلم بالحديث يخالف هذا المذهب )) .
الثالث : العقل لما يحدث به :
وقد روي مثل هذا الكلام عن جماعة من السلف ، ذكر ابن أب الزناد عن أبي قال : (( أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ، ما يؤخذ عنهم شئ من الحديث ، يقال : ليس من أهله )) . خرجه مسلم في مقدمة كتابه .
وروى إبراهين بن المنذر حدثني معن بن عيسى قال كان مالك يقول : (( لا تأخذ العلم من أربعة ، وخذ ممن سوى ذلك : لا تأخذ من سفيه معلن بالسفه ، وإن كان أروى الناس . ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس ، وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم . ولا من صاحب هوى يدعو الناس إل هواه . ولا من شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به )) .
قال إبراهيم بن المنذر : (( فذكرت هذا الحديث لمطرف بن عبد الله اليساري مولى زيد بن أٍلم ، فقال : ما أدري ما هذا ؟ ولكن أشهد لسمعت مالك بن أنس يقو ل: (( لقد أدركت بهاذ البلد – يعني المدينة – مشيخة لهم فضل وصلاح وعبادة يحدثون ، ما سمعت من واحد منهم حديثاً قط ! قيل : ولم يا أبا عبد الله ؟ قال : لم يكونوا يعرفون ما يحدثون )) .
وروى ضورة عن سعيد بن عبد العزيز عن مغيرة عن إبراهيم قال : (( لقد رأيتنا وما نأخذ الأحاديث إلا ممن يعرف حلالها من حرامها وحرامها من حلالها ، وإنك لتجد الشيخ يحدث بالحديث فيحرف حلاله عن حرامه ، وحرامه ن حلاله وهو لا يشعر )) .
وقال محمد بن عبد الله بن عمّار الحافظ الموصلي وقد سئل عن علي بن غراب ؟ فقال : كان صاحب حديث بصيراً به ، قيل له : أليس هو ضعيفاً ؟ قال : إنه كان يتشيع ، ولست بتارك الرواية عن رجل صاحب حديث يبصر الحديث بعد أن لا يكون كذوباً للتشيع أو للقدر ، ولست براو عن رجل لا يبصر الحديث ولا يعقله ولوكان أفضل من فتح ، يعني الموصلي )) .
وحكى الترمذي في علله عن البخاري قال : (( كل من لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه لا أحدث عنه )) وسمى منهم زمعة بن صالح وأيوب بن عتبة .
وحكى الحاكم هذا المذهب عن مالك ، وأبي حنيفة ، وحكى عن أكثر أهل الحديث الاحتجاج بحديث من لا يعرف ما يحدث به ولا يحفظه .
والظاهر – والله أعلم – حمل كلام الشافعي رحمه الله على من لا يحفظ لفظ الحديث ، وإنما يحدث بالمعنى ، كما صرح بذلك فيما بعد .
وكذلك نقل الربيع عن في موضع آخر أنه قال : (( تكون اللفظة تترك من الحديث فيختل المعنى ، أو ينظق بها بغير لفظ المحدث والناط بها غير عامد لإحالة الحديث [ فيختل معناه . فإذا كان الذي يحمل الحديث يجهل هذا المعنى – وكان غير عاقل للحديث - ] فلم يقبل حديثه إذا كان يحمل ما لا يعقل إذا كان ممن لا يؤدي الحديث بحروفه ،وكان يلتمس روايته على معانيه وهو لا يعقل المعنى )) .
إلى أن قال : (( فالظنة فيمن لا يؤدي الحديث بحروفه ولا يعقل معانيه أبين منها في الشاهد لمن ترد شهادته له فيما هو ظنين فيه )) .
فهذا يبين أن الشافعي إنما اعتبر في الرواي أن يكون عارفاً بمعاني الحديث إذا كان يحدث بالمعنى ولا يحفظ الحروف ، والله أعلم .
فقوله هنا : (( عاقلاً لما يحدث به ، عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ )) هو شرط واحد ليس فيه تكرير ، بل مراده بعقل ما يحدث به فهم المعنى . ومراده بالعلم بما يحيل المعنى من الألفاظ معرفة الألفاظ التي تؤدي بها المعاني .
وقد فسر أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة قول الشافعي : (( عاقلاً لما يحدث به ، بأن مراده أن يكون الراوي ذا عقل فقط قال : (( وهذا شرط بإجماع )) .
وهذا الذي قاله فيه نظر وضعف .
وهذا كله في حق من لا يحفظ الحديث بألفاظه ، بدليل أنه قال بعد ذلك : (( أو أن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه ، ولا يحدث به على المعنى )) ، فجعل هذا قسيماً للذي قبله .
فقسم الرواة إلى قسمين :
من يحدث بالمعنى ، فيشترط فيه أن يكون عاقلاً لما يحدث به من المعاني ، عالماً بما يحيل المعنى من الألفاظ .
ومن يحدث باللفظ ، فيشترط فيه الحفظ للفظ الحديث واتقانه . وما علل به من اشتراط معرفة المعنى واللفظ المؤدي له ، فهو حق واضح ، وقد سبق معنى ذلك عن إبراهيم النخعي .
وقد قال أحمد في رواية الأثرم : (( سعيد بن زكريا المدايني : كنا كتبنا عنه ثم تركناه ، قيل له : لم ؟ قال : لم يكن أرى به في نفسه بأساً ، لكن لم يكن بصاحب حديث )) . وهذا محمول على أنه كان يحدث من حفظه أيضاً فيخشى عليه الغلط .
الرابع : حفظ الراوي :
فإن كان يحدث من حفظه اعتبر حفظه لما يحديث به ، لكن إن كان يحدث باللفظ اعتبر حفظه لألفاظ الحديث ، وإن كان يحدث بالمعنى اعتبر حفظه لألفاظ الحديث ، وإن كان يحدث بالمعنى اعتبر معرفته بالمعنى وباللفظ الدال عليه كما تقدم ، وإن كان يحدث من كتابه حفظه لكتابه ، وقد سبق كلام الأئمة واختلافهم في جواز التحديث من الكتاب ، وفي صفة حفظ الكتاب بما فيه كفاية .
الخامس : أن يكون في حديثه الذي لا ينفرد به يوافق الثقات في حديثهم :
فلا يحدث بما لا يوافق الثقات . وهذا الذي ذكره معنى قول كثير من الأئمة الحفاظ في الجرح في كثير من الرواة : (( يحدث بما يخالف الثقات )) . أو (( يحدث بما لا يتابعه الثقات عليه )) .
لكن الشافعي اعتبر أن لا يخالفه الثقات ، ولهذا قال بعد هذا الكلام : (( بريّاً أن يحدث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما يحدث الثقات خلافه )) .
وقد فسر الشافعي الشاذ من الحديث بهذا :
قال يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول : (( ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة حديثاً لم يروه غيره ، إنما الشاذ من الحديث أن يروي الثقات حديثاً فيشذ عنهم واحد فيخالفهم )) .
وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث – إذا تفرد به واحد – وإن لم يرو الثقات خلافه - : (( إنه لا يتابع عليه ، ويجعلون ذلك علة فيه ، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ،ولهم في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه . قال صالح بن محمد الحافظ : (( الشاذ : الحديث المنكر الذي لا يعرف )) . وسيأتي لذلك مزيد إيضاح عند ذكر الحديث الغريب إن شاء الله تعالى .
السادس : أن لا يكون مدلساً :
فمن كان مدلساً : يحدث عمن رآه بما لم يسمعه منه فإنه لا يقبل منه حديثه حتى يصرح بالسماع ممن روى عنه ، وهذا الذي ذكره الشافعي قد حكاه يعقوب بن شيبة عن يحيى بن معين .
وقال الشاذكوني : (( من أراد التدين بالحديث فلا يأخذ عن الأعمش ، ولا عن قتادة ، إلا ما قالا سمعناه )) .
وقال البرديجي : (( لا يحتج من حديث حميد إلا بما قال : ثنا أنس )) .
ولم يعتبر الشافعي أن يتكرر التدليس من الراوي ولا أن يغلب على حديثه ، بل اعتبر ثبوت تدليسه ولو بمرة واحدة .
واعتبر غيره من أهل الحديث أن يغلب التدليس على حديث الرجل . وقالوا : إذا غلب عليه التدليس لم يقبل حديثه حتى يقول : ثنا ، وهذا قول ابن المديني ، حكاه يعقوب بن شيبة عنه .
وذكر مسلم في مقدمة كتابه : أنه إنما يعتبر التصريح بالسماع ممن شهر بالتدليس وعرف به .
وهذا يحتمل أن يريد به كثرة التدليس عن الثقات أو عن الضعفاء ، فإن كان يدلس عن الثقات قبل حديثه وإن عنعنه . وإن كان يدلس عن غير الثقات لم يقبل حديثه حتى يصرح بالسماع ، وهذا الذي ذكره حسيم الكرابيسي وأبو الفتح الأزدي الموصلي الحافظ ، وكذلك ذكره طائفة من فقهاء أصحابنا ، وهذا بناء على قولهم بقبول المراسيل .
واعتبروا كثرة التدليس في حق من يدلس عن غير الثقات .
وكذا ذكر الحاكم أن المدلس إذا لم يذكر سماع في الرواية فحكم حديثه حكم المرسل ، وكذلك أشار إليه أبو بكر الصيرفي في شرح رسالة الشافعي .
وأما الإمام أحمد فتوقف في المسألة ، قال أبو داود : سمعت أحمد سئل عن الرجل يعرف بالتدليس في الحديث يحتج فيما لم يقل فيه : حدثني أو سمعت ؟ قال : لا أدري .
وأما من يدلس عمن لم يره فحكم حديثه حكم المرسل ، وقد سبق ذكره . ومتى صرح بالسماع أو قال نا أو أنا فهو حجة ، وزعم أبو الطيب الطبري من الشافعية أنه لا يحتج بقول المدلس : أنا ، لأنه في يكون إجازة . وهذا ضعيف ، فإن مثله يتطرق إلى قوله : ثنا أيضاً ، فإن ذلك جائز عند كثير من العلماء في الإجازة ، كما سبق .
ثم إن الإجازة والمناولة تصح الرواية بهما على ما تقدم ، فيحتج بحديث من حدث بهما حينئذ /، وأيضاً فقد تستعمل ثنا في الإرسال ؛ كما كان الحسن يقول : (( ثنا ابن عباس )) . ويتأول أنه حدث أهل البصرة ، ولكن هذا استعمال نادر ، والحكم للغالب .
وأما قول الشافعي : إن التدليس بكذب يرد به حديث صاحبه كله ، فهذا أيضاً قول أحمد وغيره من الأئمة ، لأن قول من سمع منه المدلس عن فلان ليس بكذب منه ، وإنما فيه كتمان من سمع منه عن فلان . وحكي الخطيب هذا القول عن كثير من العلماء . وعن بعضهم أنهكذب يرد به حديث صاحبه ، وممن قال إنه كذب : حماد بن زيد ، وأبو أسامه .
وقال شعبة : (( هو أخو الكذب )) ، وقال مرة : (( هو أشد من الزنا )) . وروى رزق الله بن موسى عن وكيع قال : لا يحل تدليس الثوب فكيف يحل تدليس الحديث ؟ )) .
وهذا في التدليس عن غير الثقات ظاهر .
وقال أحمد في التدليس : (( أكرهه ، قيل له : قال شعبة : هو كذب ؟ قال أحمد : لا ، قد دلس قوم ونحن نروي عنهم )) .
وقال يحيى بن معين : كان الأعمش يرسل ، فقيل له : إن بعض الناس قال : من أرسل لا يحتج بحديثه ! فقال : الثوري إذاّ لا يحتج بحديثه ، وقد كان يدلس ، إنما سفيان أمير المؤمنين في الحديث )) انتهى
والتدليس مكروه عند الأكثرين ، لما فيه من الإيهام ، وهو عن الكذابين أشد . وقد صرح طائفة من العلماء : منهم مسلم في مقدمة كتابه بأن من روى عن غير ثقة وهو يعرف حاله ولم يبين ذلك إلا لمن لا يعرفه أنه يكون آثماً بذلك ، يريدون أنه فعل محرم ، فإسقاط من ليس بثقة من الحديث أقبح من الرواية عنه من غير تبيين حاله .
ورخص في التدليس طائفة ، قال يعقوب بن شيبة : (( من رخص فيه فإنما رخص فيه عن ثقة سمع منه . وأما من دلس عمن لم يسمع منه فلم يرخص فيه ، وكذا إذا دلس عن غير ثقة )) .
كذا قال يعقوب : وقد كان الثوري وغيره يدلسون عمن لم يسمعوا منه أيضاً ، فلا يصح ما ذكره يعقوب .

* الحديث المعنعن وشروط قبوله *

وقول الشافعي رحمه الله : (( وأقبل الحديث حدثني فلان عن فلان إذا لم يكن مدلساً ؛ مراده أنه يقبل العنعنة عمن عرف منه أنه ليس بمدلس ، فإن الربيع نقل عنه أيضاً قال في كلام له : (( لم يعرف التدليس ببلدنا فيمن مضى ، ولا من أدركنا من أصحابنا إلا حديثاً ، فإن منهم من قبله عمن لو تركه عليه كان خيراً له ، وكان قول الرجل : (( سمعت فلاناً يقول : سمعت فلاناً )) وقوله : (( حدثني فلان عن فلان )) سواء عندهم ، لا يحدث واحد منهم من لقي إلا ما سمع منه ، فمن عرفناه بهذا الطريق قبلنا منه حدثني فلان عن فلان إذا لم يكن مدلساً )) .
وظاهر هذا أنه لا يقبل العنعنة إلا عمن عرف منه أنه لا يدلس ولا يحدث إلا عمن لقبه ما سمع منه .
وهذا قريب من قول من قال : إنه لا يقبل العنعنة إلا عمن ثبت أنه لقيه ، وفيه زيادة أخرى عليه ، وهي اشترط أنه يعرف أنه لا يدلس عمن لقيه أيضاً ، ولا يحدث إلا بما سمعه .
وقد فسره أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة باشتراط ثبوت السماع لقبول العنعنة ، وأنه إذا علم السماع فهو على السماع حتى يعم التدليس ، وإذا لم يعلم سمع أو لم يسمع وقف . فإذا صح السماع فهو عليه حتى يعلم غيره . قال : وهذا الذي قاله صحيح )) انتهى .
وهذه المسألة فيها اختلاف معروف بين العلماء ، وقد أطال القول فيها مسلم في مقدمة كتابه ، واختار أنه تقبل العنعنة من الثقة غير المدلس عمن عاصره وأمكن لقيه له ، ولا تعتبر المعرفة باجتماعهما والتقائهما .
وذكر عن بعضهم أنه اعتبر المعرفة بلقائهما واجتماعهما ، وأنه لا تقبل العنعنة من الثقة عمن لم يعرف أنه [ لقيه و ] اجتمع به .
وردّ هذا القول على قائله رداً بليغاً ، ونسبه إلى مخالفة الإجماع في ذلك .
واستدل مسلم على صحة قوله ، باتفاق العلماء على قبول الخير إذا رواه الثقة عن آخر ممن تيقن أنه سمع منه من غير اعتبار أن يقول : (( ثنا )) أو (( سمعت )) ، ولو كان الإسناد لا يتصل إلا بالتصريح بالسماع لم يكن فرق بين الرواية عمن ثبت لقيه ومن لم يثبت ، فإنا نجد كثيراً ممن روى عن رجل ثم [ قد ] روى حديثاً عن آخر عنه .
وقد طرد بعض المتأخرين من الظاهرية ونحوهم هذا الأصل ، وقال : كل خبر لا يصرح فيه بالسماع فإنه لا يحكم بالتصاله مطلقاً .
وربما تعلق بعضهم بقول شعبة : (( كل إسناد فيه ثنا وأنا فهو خلّ وبقل )) . وروي عن شعبة قال : (( فلان عن فلان ليس بحديث )) . قال وكيع وقال سفيان : (( هو حديث )) . قال ابن عبد البر : (( رجع شعبة إلى قول سفيان في هذا )) . وهذا القول شاذ مطرح ، وقد حكى مسلم وغيره الإجماع على خلافه .
وقال الخطيب : (( أهل العلم بالحديث مجمعون على أن قول المحدث (( ثنا فلان عن فلان )) صحيح معمول به إذا كان شيخه الذي ذكره يعرف أنه قد أدرك الذي حدث عنهولقيه وسمع منه ، ولم يكن هذا المحدث ممن يدلس )) انتهى .
ومما استدل به مسلم على المخالف له : إن من تكلم في صحة الحديث من السلف لم يفتش أحد منهم على موضع السماع ، وسمى منهم شعبة ، والقطان ، وابن مهدي . قال : (( ومن بعدهم من أهل الحديث )) .
وذكر أن عبد الله بن يزيد روى عن حذيفة وأبي مسعود حديثين ، ولم يرد أنه سمع منهما ولا رآهما قط ، ولم يطعن فيهما أحد .
وذكر أيضاً رواية أبي عثمان النهدي وأبي رافع الصائغ عن أُبي بن كعب ، ورواية أبي عمرو الشيباني وأبي معمر عن أبي مسعود ، ورواية عبيد بن عمير عن أم سلمة ، ورواية بن أبي ليلى عن أنس ، وربعي بن حراش عن عمران بن حصين ، ونافع بن جبير عن أبي شريح ، والنعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد ، وعطاء ابن يزيد عن تميم الداري ، وسليمان بن يسار عن رافع بن خديج ، وحميد الحميري عن أبي هريرة : وكل هؤلاء لم يحفظ لهم عن هؤلاء الصحابة سماع ، ولا لقاء ، يعني وقد قبل الناس حديثهم [ عنهم ] .
وقال الحاكم : قرأت بخط محمد بن يحيى سألت أبا الوليد : أكان شعبة يفرق بين أخبرني وعن ؟ فقال : (( أدركت العلماء وهم لا يفرقون بينهما ! )) . وحمله البيهقي على من لا يعرف بالتدليس ، و [ ويمكن حمله على من ثبت لقيه أيضاً ] .
وكثير من العلماء المتأخرين هلى ما قاله مسلم رحمه الله : من أن إمكان اللقي كاف في الاتصال من الثقة غير المدلس ، وهو ظاهر كلام ابن حبان وغيره . [ وقد ذكر الترمذي في كتاب العلم أن سماع سعيد بن المسيب من أنس ممكن ، لكن لم يحكم لروايته عنه بالاتصال ] .
وقد حكى بعض أصحابنا عن أحمد مثله .
وقال الأثرم : سألت أحمد قلت : (( محمد بن سوقة سمع من سعيد بن جبير ؟ )) قال : (( نعم سمع من الأسود غير شئ )) كأنه يقول : إن الأسود أقدم .
لكن قد يكون مستند أحمد أنه وجد التصريح بسماعه منه ، وما ذكره من قدم الأسود إنما ذكره ليستدل به على صحة قول منا ذكر سماعه من سعيد بن جبير ، فإنه كثيراً ما يرد التصريح بالسماع ، ويكون خطأ ، وقد روى ابن مهدي عن شعبة سمعت أبا بكر بن محمد بن حزم ، فأنكره أحمد وقال : (( لم يسمع شعبة من أحد من اهل المدينة من القدماء ما يستدل به على أنه سمع من أبي بكر إلا سعيداً المقبري فإنه روى عنه حديثاً ، فقيل له : فإن المقبري قديم ؟ فسكت أحمد .
وأما جمهور المتقدمين فعل ما قاله ابن المديني والبخاري ، وهو القول الذي أنكره مسلم على من قاله.
وحكى عن أبي المظفر بن السمعاني : أنه اعتبر لاتصال الإسناد اللقي وطول الصحبة . وعن أبي عمرو الداني أن يكون معروفاً بالرواية عنه ، وهذا أشد من شرط البخاري وشيخه الذي أنكره مسلم .
وما قاله ابن المديني والبخاري هو مقتضى كلام أحمد ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم ، وغيرهم من أعيان الحفاظ .

* فائدة في شواهد اشتراط ثبوت السماع

في الحديث المعنعن *
بل كلامهم يدل على اشتراط ثبوت السماع كما تقدم عن الشافعي رضي الله عنه ، فإنهم قالوا في جماعة من الأعيان ثبتت لهم الرؤية لبعض الصحابة ، وقالوا مع ذلك لم يثبت لهم السماع منهم ، فرواياتهم عنهم مرسلة . منهم الأعمش ، ويحيى بن أبي كثير ، وأيوب ، وابن عون ، وقرة بن خالد ، رأوا أنساً ولم يسمعوا منه ، فرواياتهم عنه مرسله .
كذا قاله أبو حاتم ، وقاله أبو زرعة [ أيضاً ] في يحيى بن أبي كثير .
وقال أحمد في يحيى بن أبي كثير : (( قد رأى أنساً فلا أدري سمع منه أم لا ؟ )) . ولم يجعلوا روايته عنه متصلة بمجرد الرؤية ، والرؤية أبلغ من إمكان اللقي .
وكذلك كثير من صبيان الصحابة رأوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولم يصح لهم سماع منه ، فرواياتهم عنه مرسلة ، كطارق بن شهاب وغيره .
وكذلك من علم منه أنه مع اللقاء لم يسمع ممن لقيه إلا شيئاً يسيراً ، فرواياته عنه زيادة على ذلك مرسلة ، كروايات ابن المسيب عن عمر ، فإن الأكثرين نفوا سماعه منه ، وأثبت أنع رآه وسمع منه ، وقال مع ذلك : إن رواياته عنه مرسلة لأنع إنما سمع منه شيئاً يسيراً ، مثل نعيه للنعمان بن مقرن على المنبر ، ونحو ذلك .
وكذلك سماع الحسن بن عثمان [ وهو ] على المنبر يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام ، ورواياته عنه غير ذلك مرسلة .
وقال أحمد : (( ابن جريج لم يسمع من طاووس ولا حرفاً ، ويقول : رأيت طاووساً )) .
وقال أبو حاتم الرازي أيضاً : (( الزهري لا يصح سماعه من ابن عمر ، رآه ولم يسمع منه ، ورأى عبد الله بن جعفر ولم يسمع منه )) .
وأثبت أيضاً دخول مكحول على وائلة بن الأسقع ورؤيته له ومشافهته، وأنكر سماعه منه . وقال : (( لم يصح له منه سماع )) ، وجعل رواياته عنه مرسلة ، وقد جاء التصريح بسماع مكحول من وائلة للحديث من وجه فيه نظر ، وقد ذكرناه في أواخر كتاب الأدب . وقد ذكر الترمذي دخول مكحول على وائلة في ذكر الرواية بالمعنى .
وقال أحمد : (( أبان بن عثمان لم يسمع من أبيه ، من أين يسمع منه ؟ )) . ومراده من أين صحت الروايو بسماعه منه ، وإلا فإمكان ذلك واحتماله غير مستبعد .
وقال أبو زرعة في أبي أمامة بن سهل بن حنيف : (( لم يسمع من عمر )) . هذا مع أن أبا أمامة رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
فدل كلام أحمد ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم على أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع ، وهذا أضيق من قول ابن المديني والبخاري ، فإن المحكي عنهما : أنه يعتبر أحد أمرين : إما السماع وإما اللقاء ، وأحمد ومن نبعه : عندهم لا بد من ثبوت السماع ، ويدل على أن هذا مرادهم أن أحمد قال : (( ابن سيرين لم يج عنه سماع من ابن عباس )) .
وقال أبو حاتم : (( الزهري أدرك أبان بن عثمان ومن هو أكبر منه ولكن لا يثبت له السماع ، كما أن حبيب بن أبي ثابت لا يثبت له السماع من عروة ، وقد سمع ممن هو أكبرمنه ، غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك ، واتفاقهم على شئ يكون حجة )) .
واعتبار السماع أيضاً لاتصال الحديث هو الذي ذكره ابن عبد البر وحكاه عن العلماء ، وقوة كلامه تشعر بأنه إجماع منهم ، وقد تقدم أنه قول الشافعي أيضاً .
وحكى البرديجي : قولين في ثبوت السماع بمجرد اللقاء ، فإنه قال : (( قتادة حدث عن الزهري قال بعض أهل الحديث : لم يسمع منه ، وقال بعضهم : سمع منه لأنهما التقيا عند هشام بن عبد الملك ))
ومما يستدل به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع والاتصال أن يروي عن شيخ من غير أهل بلده لم يعلم أنه رحل إلى بلده ، ولا أن الشيخ قد إلى بلد كان الراوي عنه فيه .
نقل مهنا عن أحمد قال : (( لم يسمع زرارة بن أوفى من تميم الداري ، تميم بالشام وزرارة بصري ))
وقال أبو حاتم في رواية ابن سيرين عن أبي الدرداء : (( [ لـ ] قد أدركه ، ولا أظنه سمع منه ، ذاك بالشام وهذا بالبصرة )) .
وقال ابن المديني : (( لم يسمع الحسن من الضحاك بن قيس ، كان الصحاك يكون بالبوادي )) .
وقال الدار قطني : (( لا يثبت سماع سعيد بن المسيب من أب الدرادء ، لأنهما لم يلتقيا )) . ومراده أنه لم يثبت التقاؤهما ، لا أنه ثبت انتفاؤه ، لأنه نفيه لم يرد في رواية قط .
فإن كان الثقة يروي عمن عاصره أحياناً – ولم يثبت لقيه له – ثم يدخل أحياناً بينه وبينه واسطة فهذا يستدل به هؤلاء الأئمة على عدم السماع منه .
قال أحمد : (( البهي ما أراه سمع من عائشة ، إنما يروي عن عروة عن عائشة . قال : وفي حديث زائدة عن السدي عن البهي قال : حدثتني عائشة .قال : وكان ابن مهدي سمعه من زائدة ، وكان يدع منه (( حدثتني عائشة ، ينكره )) .
وكان أحمد يستنكر دخول التحديث في كثير من الأسانيد ، ويقول : هط خطأ ،يعني ذكر السماع :
قال في رواية هدبة عن حماد عن قتادة نا هلاد الجهني : (( هو خطأ ، خلاد قديم ، ما رأى قتادة خلاداً )) .
وذكروا لأحمد قول من قال : عن عراك بن مالك سمعت عائشة فقال : (( هذا خطأ )) وأنكره ، وقال : (( عراك من أين سمع من عائشة ؟ إنما يروي عن عروة عن عائشة )) .
وكذلك ذكر أبو حاتم الرازي : أن بقية بن الوليد كان يروي عن شيوخ ما لم يسمعه ، فيظن أصحابه أنه سمعه ، فيروون عنه تلك الأحاديث ويصرحون بسماعه لها من شيوخه ولا يضبطون ذلك وحينئذ فينبغي التفطن لهذه الأمور ، ولا يغتر بمجرد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد ، فقد ذكر ابن المديني أن شعبة وجدوا له غير شئ يذكر فيه الإخبار عن شيوخه ، ويكون منقطعاً .
وذكر أحمد أن ابن مهدي حدث بحديث عن هشيم أنا منصور بن زاذان ، قال أحمد : (( ولم يسمعه هشيم من منصور )) .
وقال أبو حاتم في يحيى بن أبي كثير : (( ما أراه سمع من عروة ابن الزبير لأنه يدخل بينه وبينه رجلاً ورجلين ، ولا يذكر سماعاً ولا رؤية ولا يؤاله عن مسألة )) .
وقال أحمد في رواية قتادة عن يحيى بن يعمر : (( لا أدري سمع منه أم لا ؟ قد روى عنه ، وقد روى عن رجل عنه )) .
وقال أيضاً : (( قتادة لم يسمع من سليمان بن يسار ، بينهما أبو الخليل ، ولم يسمع من مجاهد ، بينهما أبو الخليل )) .
وقال في سماع الزهري من عبد الرحمن بن أزهر : (( قد رآه – يعني ولم يسمع منه – قد أدخل بينه وبينه طلحة بن عبد الله ابن وهب )) .
ولم يصحح قول معمر وأسامه : (( عن الزهري سمعت عبد الرحمن ابن أزهر )) .
وقال أبو حاتم : (( الزهري لم يثبت له سماع من المسور ، يدخل بينه وبينه سليمان بن يسار وعروة بن الزبير )) .
وكلام أحمد ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم في هذا المعنى كثير جداً يطول الكتاب بذكره . وكله يدور على مجرد ثبوت الرؤية لا يكفي في ثبوت السماع ، وأن السماع لا يثبت بدون التصريح به ، وأن رواية من روى عمن عاصره تارة بواسطة وتارة بغير واسطة يدل على أنه لم يسمع منه ، إلا أن يثبت له السماع منه من وجه .
وكذلك رواية من هو في بلد عمن ببلد آخر ، ولم يثبت اجتماعهما ببلد واحد يدل على عدم السماع منه .
وكذلك كلام ابن المديني ، وأحمد ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم ، والبرديجي ، وغيرهم في سماع الحسن من الصحابة كله يدور على هذا ، وأن الحسن لم يصح سماعه من أحد من الصحابة إلا بثبوت الرواية عنه أنه صرح بالسماع منه ونحو ذلك [ وإلا فهو مرسل ] .
فإذا كان هذا [ هو ] قول الأئمة الأعلام ، وأهم أعلم وأهل زمانهم بالحديث وعلله وصحيحه وسقيمه ، ومع موافقة البخاري ، وغيره ، فكيف يصح لمسلم رحمه الله دعوى الإجماع على خلاف قولهم ؟! .
بل اتفاق هؤلاء الأئمة على قولهم هذا يقتضي حكاية إجماع الحفاظ المعتد بهم على هذا القول ، أو القول بخلاف قولهم لا يعرف على أحد من نظرائهم ، ولا عمن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم . ويشهد لصحة ذلك حكاية أبي حاتم كما سبق اتفاق أهل الحديث على أن حبيب بن أبي ثابت لم السماع من عروة ، مع إدراكه له .
وقد ذكرنا من قبل أن كلام الشافعي إنما يدل على مثل هذا القول لا على خلافه ، وكذلك حكاية ابن عبد البر عن العلماء ، فلا يبعد حينئذ أن يقال : هذا هو قول الأئمة من المحدثين والفقهاء .
وأما إنكار مسلم أن يكون هذا قول شعبة أو من بعده فليس كذلك ، فقد أنكر شعبة سمع من روي سماعه ولكن لم يثبته ، كسماع مجاهد من عائشة ، وسماع أبي عبد الرحمن السلمي من عثمان وابن مسعود .
وقال شعبة : (( أدرك أبو العالية علياً ولم يسمع منه )) . ومراده أه لم يرد سماعه منه ، ولم يكتف بإدراكه فإن أبا العالية سمع ممن هو أقدم موتاً ، فإنه قيل : إنه سمع من أبي بكر وعمر [ رضي الله عنهما ] .
وما ذكره مسلم من رواية عبد الله بن يزيد ومن سماه بعده – فالقول فيها كالقول في غيرها .
وقد قال أبو زرعة في روايات أبي أمامة بن سهل عن عمر : (( هي مرسلة )) مع أن له أيضاً رؤية .
فإن قال قائل : هذا يلزم منه طرح أكثر الأحاديث وترك الاحتجاج بها !؟
قيل : من ههنا عظم ذلك على مسلم [ رحمه الله ] . والصواب أن ما لم يرد فيه السماع من الأسانيد لا يحكم باتصاله ، ويحتج به مع إمكان اللقي كما يحتج بمرسل أكابر التابعين كما نص عليه الإمام أحمد . وقد سبق ذكر ذلك في المرسل .
ويرد على ما ذكره مسلم أن يلزمه أن يحكم باتصال كل حديث رواه من ثبتت له رؤية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم . بل هذا أولى ، لأن هؤلاء ثبت لهم اللقي ، وهو يكتفي بمجرد إمكان السماع . ويلزمه أيضاً الحكم باتصال كل من عاصر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمكن لقيه له إذا روى عنه شيئاً وإن لم يثبت سماعه منه ، ولا يكون حديثه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرسلاً ، وهذا خلاف إجماه أئمة الحديث ، والله تعالى أعلم .
[ ثم إن بعض ما مثل به مسلم كما ذكره ، فقوله : (( إن عبد الله ابن يزيد وقيس بن أبي حازم رويا عن أبي مسعود ، وأن النعمان ابن أبي عياش روى عن أبي سعيد ، ولم يرد التصريح بسماعهم منهما )) ، ليس كما قال ، فإن مسلماً رحمه الله خرّج في صحيحه التصريح بسماع النعمان [ ابن أبي عياش ] من أبي سعيد في حديثين في صفة الجنة . وفي حديث : (( أنا أفرطكم على الحوض )) . وأما سماع عبد الله بن يزيد وقيس بن أبي [ حازن بن أبي ] مسعود فقد وقع مصرحاً به في صحيح البخاري والله أعلم ] .
ولهذا المعنى تجد في كلام شعبة ، ويحيى ، وأحمد ، وعلي ، ومن بعدهم ، التعليل بعدم السماع ، فيقولون : لم يسمع فلان عن فلان ، أو لم يصح له سماع منه ، ولا يقول أحد [ منـ ] هم قط : لم يعاصره وإذا قال بعضهم : لم يدركه ، فمرادهم الاستدلال على عدم السماع منه بعدم الإدراك .
فإن قيل : فقد قال أحمد في رواية مشيش وسئل عن أبي ريحانة سمع من سفينة ؟ قال : (( ينبغي ، هو قديم : قد سمع من ابن عمر )) ؟ قيل : لم يقل : إن حديثه عن سفينة صحيح متصل ، ، إنما قال : (( هو قديم ينبغي أن يكون سمع منه )) . وهذا تقريب لإمكان سماعه ، وليس في كلامه أكثر من هذا .

*     *    *

* قول الراوي : قال فلان *

واعلم أن الراوي في روايته تارة يصرح بالسماع أو التحديث أو الإخبار ، وتارة يقول : (( عن )) ، ولا يصرح بشئ من ذلك ، وقد ذكرنا حكم هذا كله آنفاً ، وتارة يقول : قال فلان كذا ،
فهذا له ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون القائل لذلك ممن يعلم منه عدم التدليس : فتكون روايته مقبولة محتجاً بها ، كهمام ، وحماد بن زيد ، وشعبة ، وحجاج ابن محمد ، وغيرهم .
قال همام : (( ما قلت : قال قتادة فأنا سمعته من قتادة )) .
وقال حماد بن زيد : (( إني أكره إذا كنت لم أسمع من أيوب حديثاً أن أقول : قال أيوب كذا وكذا ، فيظن أني قد سمعته )) .
وقال شعبة : (( لأن أزني أحب إلىّ من أن أقول : قال فلان ، ولم أسمعه منه )) .
وكذلك حجاج بن محمد كان إذا قال : (( قال ابن جريج )) فقد سمعه منه )) .
والحال الثاني : أن يكون القائل لذلك معروفاً بالتدليس : فحكم قوله قال فلان ، حكم قوله : عن فلان ، كما سبق . وبعضهم كانت هذه عادته كابن جريج . قال أحمد : (( كل شئ قال ابن جريج : قال عطائ أو عن عطاء – فإنه لم يسمعه من عطاء )) . وقال أيضاً : (( إذا قال ابن إسحاق : وذكر فلان فلم يسمعه منه )) .
الحال الثالث : أن يكون حالاً مجهولاً . فهل يحمل على الاتصال أم لا ؟ قد ذكر الفقهاء من أًجابنا وأصحاب الشافعي خلافاً في الصحابي إذا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : هل يحمل على السماع أم لا ، وأن الأصح حمله على السماع .
وحكى ابن عبد البر عن الجمهور من العلماء أن من روى عمن صح له لقيه والسماع منه ، وقال : (( قال فلان )) حمل على الاتصال . بل كلامه يدل على أنه إجماع منهم . وذكر الإجماع على أن قول الصحابي : (( عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال )) وسمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) كله سواء . ولكن هذا قد يتبنى على أن مرسل الصحابي حجة .
*     *     *

* الحديث المؤنن *

فأما قول الراوي : (( أن فلاناً قال )) فهل يحمل على الاتصال أم لا ؟ فهذا على قسمين :
أحدهما : أن يكون ذلك القول المحكي عن فلان أو الفعل المحكي عنه بالقول مما يمكن أن يكون الراوي قد شهده وسمعه منه ، فهذا حكمه حكم قول الراوي : (( قال فلان : كذا ، أو فعل فلان كذا )) ، على ما سبق ذكره .
والقسم الثاني : أن يكون ذلك القول المحكي عن المروي عنه أو الفعل مما لا يمكن أن يكون قد شهدا ، مثل أن لا يكون قد أدرك زمانه كقول عروة : (( إن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : كذا وكذا )) . فهل هو مرسل ، لعدم الإتيان بما يبين أنه رواه عن عائشة ؟ أم هو متصل ، لأن عروة قد عرف بالرواية عن عائشة ، فالظاهر أنه سمع ذلك منها ؟ .
هذا فيه خلاف :
قال أبو داود : سمعت أبا عبد الله – يعني أحمد – قال : (( كان مالك زعموا أن يرى عن فلان ، ,أن فلاناً سواء )) وذكر أحمد مثل حديث جابر أن سليكاً جاء والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب . وعن جابر عن سليك أنه جاء والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب .
قال : وسمعت أحمد قيل له : إن رجلاً قال : (( عن عروة قالت عائشة يا رسول الله . وعن عروة عن عائشة سواء )) . قال : (( كيف هذا سواء ؟ ليس هذا بسواء )) فذكر أحمد القسمين اللذين أشرنا إليهما .
فأما رواية جابر أن سليكاً جاء والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب وروايته عن سليك أنه جاء والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب .
فهذا من القسم الأول ، لأنه يمكن أن يكون جابر شهد ذلك وحضره . ويمكن أن يكون رواه عن سليك .
ومثل هذا كثير في الحديث : مثل رواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لعمر كذا وكذا ، في أحاديث متعددة . وروي بعضها عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فمن رواه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لعمر جعله من مسند ابن عمر ، ومن رواه عن ابن عمر عن عمر جعله من مسند عمر .
ولكن كان القدماء كثيراً ما يقولون عن فلان ويريدون الحكاية عن قصته ، والتحديث عن شأنه ، لا يقصدون الرواية عنه . وقد حكى الدار قطني عن موسى بن هارون الحافظ أن المتقدمين كانوا يفعلون ذلك ، وقد ذكرنا كلامه في كتاب الحج في باب الصيد للحرم .
وأما إذا روى الزهري مثلاً عن سعيد بن المسيب ثم قال مرة : إن سعيد بن المسيب قال ، فهذا محمول عن الرواية عنه دون الانقطاع ، ولعل هذا هو مراد مالك الذي حكاه أحمد عنه ولم يخالفه .
وقد حكى ابن عبد البر هذا القول عن جمهور العلماء ، وحكى عن البرديجي خلاف ذلك ، وأنه قال : (( هو محمول على الانقطاع ، إلا أن يعلم اتصاله من وجه آخر )) ، وقال : (( لا وجه لذلك )) . ولم يذكر لفظ البرديجي ، فلعله قال ذلك في القسم الثاني كما سنذكره .
وأما رواية عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وعروة أن عائشة قلت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهذا هو :
القسم الثاني : وهو الذي أنكر أحمد التسوية بينهما . والحفاظ كثيراً ما يذكرون مثل هذا ويعدووه اختلافاً في إرسال الحديث واتصاله ، وهو موجود كثيراً في كلام أحمد ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم ، والدار قطني ، وغيرهم من الأئمة .
ومن الناس من يقول : هما سواء ، كما ذكر ذلك لأحمد . وهذا إنما يكون فيمن اشتهر بالرواية عن المحكي قصته ، كعروة مع عائشة . أما من لم يعرف له سماع منه فلا ينبغي أن يحمل على الاتصال ، ولا عند من يكتفي بإمكان اللقي .
والبخاري قد يخرج من هذا القسم في صحيحه ، كحديث عكرمة أن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قصة امرأة رفاعة . وقد ذكرنا في كتاب النكاح هذا على تقدير أن يكون عكرمة سمع من عائشة .
وقد ذكر الإسماعيلي في صحيحه أن المتقدمين كانوا لا يفرقون بين هاتين العبارتين .
وكذلك ذكر أحمد أيضاً أنهم كانوا يتساهلون في ذلك مع قوله : إنهما ليسا سواء ، وإن حكمهما مختلف ، لكن كان يقع ذلك منهم أحياناً على وجه التسامح وعد التحرير .
قال – أحمد في رواية الأثرم في حديث سفيان عن أبي النضر عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن حذافة في النهي عن صيام أيام التشريق : (( ومالك قال فيه : عن سليمان بن يسار أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث عبد الله بن حذافة )) - .
قال أحمد : (( هو مرسل ، سليمان بن يسار لم يدرك عبد الله بن حذافة قال : وهو كانوا يتساهلون بين (( عن عبد الله بن حذافة )) وبين (( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث عبد الله بن حذافة )) .
قيل له : وحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثه يخطب ميمونة ، وقال مطر : عن أبي رافع ؟ : قال : (( نعم ، وذاك أيضاً )) .

*     *     *

* فصل في الحديث الحسن وما يتفرغ على شروطه *

وأما الحديث الحسن :
فقد بين الترمذي مراده بالحسن ، وهو : ما كان حسن الإسناد ، وفسّر حسن الإسناد بأن لا يكون في إسناده متهم بالكذب ، ولا يكون شاذاً ، ويروى من غير وجه نحوه . فكل حديث كان كذلك فهو عنده حديث حسن .
وقد تقدم أن الرواة منهم من يتهم بالكذب ، ومنهم من يغلب على حديثه الوهم والغلط ، ومنهم الثقة الذي يقل غلطه ، ومنهم الثقة الذي يكثر غلطه .
فعلى ما ذكره الترمذي : كل ما كان في إسناده متهم فليس بحسن ، وما عداه فهو حسن بشرط أن يكون شاذاً – والظاهر أنه أراد بالشاذ ما قاله الشافعي ، وهو أن يروي الثقات عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلافه وبشرط أن يروى نحوه من غيره وحه ، يعني أن يروى معنى ذلك الحديث من وجوه أخر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بغير ذلك الإسناد .
فعلى هذا : الحديث الذي يريوه الثقة العدل ، ومن كثر غلطه ، ومن يغلب على حديثه الوهم ، إذا لم يكن أحد منهم متهماً كله حسن بشرط أن لا يكون شاذاً للأحاديث الصحيحة ، وبشرط أن يكون معناه قد روي من وجوه متعددة .

* الاصطلاحات المركبة عند الترمذي *

فإن كان مع ذلك من رواية الثقات العدول الحفاظ فالحديث حينئذ حسن صحيح ، وإن كان مع ذلك من رواية غيرهم من أهل الصدق الذين في حديثهم وهو غلط – إما كثيراً أو غالب عليهم – فهو حسن ، ولم لم يرو لفظه إلا من ذلك الوجه ، لأن المعتبر أن يروي معناه من غير وجه ، لا نفس لفظه .
وعلى هذا : فلا يشكل قوله : (( حديث حسن غريب )) ، ولا قوله : (( صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه )) ، لأن مراده أن هذا اللفظ لا يعرف إلا من هذا الوجه ، لكن لمعناه شواهد من غير هذا الوجه ، وإن كانت شواهده بغير لفظه .
وهذا كما في حديث (( الأعمال بالنيات )) ، فإن شواهده كثيرة جداً في السنة ، مما يدل على أن المقاصد والنيات هي المؤثرة في الأعمال ، وأن الجزاء يقع على العمل بحسب ما نوي به ، وإن لم يكن لفظ حديث عمر مروياً من غير حديثه من وجه يصح .
وبمعنى هذا الذي ذكرناه فسر ابن الصلاح كلام الترمذي في معنى الحسن ، غير أنه زاد : (( ان لا يكون من رواية مغفل كثير الخطأ )) .
وهذا لا يدل عليه كلام الترمذي ، لأنه إنما اعتبر أن لا يكون راويه منهما فقط . لكن قد يؤخذ مما ذكره الترمذي قبل هذا : (( أن من كان مغفلاً كثير الخطأ لا يحتج بحديثه ، ولا يشتغل بالرواية عنه عند الأكثرين )) .
وقول الترمذي رحمه الله : (( يروى من غير وجه نحو ذلك )) [ و ] لم يقل : عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيحتمل أن يكون مراده عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ويحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره  وهو أن يكون معناه يروى من غير وجه ولو موقوفاً ، ليستدل بذلك على أن هذا المرفوع له أصل يعتضد به .
وهذا كما قال الشافعي في الحديث المرسل : (( إنه إذا عضده قول صحابي ، او عمل عامة أهل الفتوى به ، كان صحيحاً .
وعلى هذا التفسير الذي ذكرناه لكلام الترمذي أنما يكون الحديث صحيحاً حسناً إذا صح إسماده برواية الثقات العدول ، ولم يكن شاذاً ، وروي نحوه من غير وجه .
وأما الصحيح المجرد فلا يشترط فيه أن يروى نحوه من غير وجه ، لكن لا بد أن لا يكون أيضاً شاذاً [ - وهو ما روت الثقات خلافه ، على ما يقوله الشافعي والترمذي - ] ، فيكون حينئذ الصحيح الحسن أقوى من الصحيح المجرد .
وقد يقال : إن الترمذي إنما أراد بالحسن ما فسره به ههنا إذا ذكر الحسن مجرداً عن الصحة . فأما الحسن المقترن بالصحيح فلا يحتاج أن يروى نحوه من غيره وجه ، لأن صحته تغني عن اعتضاده بشواهد آخر . والله أعلم .

* تحقيق قول الترمذي حسن صحيح *

وقد اضطرب الناس في جمع الترمذي بين الحسن والصحيح ، لأن الحسن دون الصحيح ، فكيف يجتمع الحسن والصحة ، وكذلك جمعه بين الحسن والغريب ، فإن الحسن عنده ما تعددت مخارجه ، والغريب ما لم يرو إلا من وجه واحد .
فمنهم من قال : إن مراده أن الحديث حسن والثقة رجاله وارتقى منالحسن إلى درجة الصحة ، لأن رواته في نهاية مراتب الثقة ، فحديثهم حسن [و] صحيح ، لجمعهم بين صفات من يحسن حديثه وصفات من يصحح حديثه . وعلى هذا فكل صحيح حسن ولا عكس ، ولهذا لا يكاد يفرد الصحة عن الحسن إلا نادراً .

* تتمة في الحسن لذاته

والتوفيق بين تعاريف الحسن *
وعلى هذا التفسير فالحسن ما تقاصر عن درجة الصحيح ، لكون رجاله لم يبلغوا من الصدق والحفظ درجة رواة الصحيح ، وهم الطبقة الثانية من الثقات الذين ذكرهم مسلم في مقدمة كتابه ، وقيل إنه خرج حديثهم في المتابعات .
وهذا الحسن هو الذي أراده أبو داود بقوله : (( خرجت في كتابي الصحيح وما يشبهه وما يقاربه ))
وذكر ابن الصلاح أن تفسير الحسن بهذا المعنى هو قول الخطابي ، وليس هو قول الترمذي .
وذكر أن الحسن نوعان :
أحدهما : ما ذكره الترمذي : وهو أن يكون رواية غير متهم ، ولا مغفل كثير الخطأ ولا صاحب فسق ، ويكون متن الحديث قد اعتضد بشاهد آخر له ، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً ومنكراً .
والثاني : وهو قول الخطابي : أن يكون رواته من المشهورين بالصدق والأمانة غيرأنهم لم يبلغوا درجة رجال الصحيح لتقصيرهم عنهم في الاتقان والحفظ ، ولا يكون الحديث شاذاً ولا منكراً ولا معطلاً .

* تكملة شرح الاصطلاحات المركبة عند الترمذي *

وذكر أن الترمذي إذا جمع بين الحسن والصحة فمراده أنه روي بإسنادين : أحدهما حسن ، والآخر صحيح . وهذا فيه نظر ، لأنه يقول كثيراً : (( حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه )) .
وقد أجاب عن ذلك بعض أكابر المتأخرين : بأنه قد يكون أصل الحديث غريباً ، ثم تتعدد طرقهعن بعض رواته ، إما التابعي أو من بعده ، فإن كانت تلك الطرق كلها صحيحة فهو صحيح غريب ، وإن كانت كلها حسنة فهو حسن غريب ، وإن كان بعضها صحيحاً وبعضها حسناً فهو صحيح حسن غريب ، إذا الحسن عند الترمذي ما تعددت طرقه ، وليس فيها متهم ، وليس شاذاً .
فإذا قال مع ذلك : (( إنه غريب لا يعرف إلا من ذلك الوجه )) حمل على أحد شيئين : إما أن تكون طرقه قد تعددت إلى أحد رواته الأصليين فيكون أصله غريباً ثم صار حسناً . وإما أن يكون إسناده غريباً بحيث لا يعرف بذلك الإسناد إلا من هذا الوجه ، ومتنه حسناً بحيث روي من وجهين وأكثر – كما يقول : وفي الباب عن فلان وفلان – فيكون لمعناه شواهد تبين أن متنه حسن ، وإن كان إسناده غريباً .
وفي بعض هذا نظر ، وهو بعيد من مراد الترمذي لمن تأمل كلامه .
ومن المتأخرين من قال : (( إن الحسن الصحيح عند الترمذي دون الصحيح المفرد ، فإذا قال : صحيح فقد جزم بصحته ، وإذا قال : حسن صحيح فمراده أنه جمع طرفاً من الصحة وطرفاً من الحسن ، وليس بصحيح محض ، بل حسن مشوب بصحة ، كما يقاتل في المز : إنه حلو حامض ، باعتبار أن فيه حلاوة وحموضة )) .
وهذا بعيد جداً ، فإن الترمذي يجمع بين الحسن والصحة في غالب الأحاديث الصحيحة المتفق على صحتها ، والتي أسانيدها في أعلى درجة الصحة ، كمالك عن نافع عن ابن عمر ، والزهري عن سالم عن أبيه ، ولا يكاد الترمذي يفرد الصحة إلا نادراً ، وليس ما أفرد فيه الصحة بأقوى مما جمع فيه بين الصحة والحسن .
ومن المتأخرين أيضاً من قال : مراد الترمذي بالحسن أن كلاً من الأوصاف الثلاثة التي ذكرها في الحسن – وهي سلامة الإسناد من المتهم ، وسلامته من الشذوذ ، وتعدد طرقه ولو كانت واهية – موجب لحسن الحديث عنده .
وهذا بعيد جداً ! وكلام الترمذي إنما يدل على أنه لا يكون حسناً جتى يجتمع فيه الأوصاف الثلاثة ، وتسمية الحديث الواهي الذي تعددن طرقه حسناً ، لا أعلمه وقع في كلام الترمذي في شئ من أحاديث كتابه .

* فصل في شرط الترمذي وأنواع الحديث *

من حيث تفرد الراوي به
واعلم أن الترمذي رحمه الله خرج في كتابه الحديث الصحيح والحديث الحسن – وهو ما نزل عن درجة الصحيح وكان فيه بعض ضعف – والحدي الغريب ، كما سيأتي .
والغرائب التي خرجها فيها بعض المناكير – ولا سيما في كتاب الفضائل – ولكنه يبينذلك غالباً ولا يسكت عنه ، ولا أعلمه خرج عن متهم بالكذب متفق على اتهامه حديثاً بإسناد منفرد ، إلا أنه قد يخرج حديثاً مروياً من طرق ، أو مختلفاً في إسناده ، وفي بعض طرقه متهم ، وعلى هذا الوجه خرج حديث محمد بن سعيد المصلوب ، ومحمد بن السائب الكلبي .
نعم قد يخرج عن سئ الحفظ ، وعمن غلب على حديثه الوهم ، ويبين ذلك غالباً ولا يسكت عنه ، وقد شاركه أبو داود في التخريج عن كثير من هذه الطبقة ، مع السكوت على حديثهم ، كإسحاق بن أبي فروة وغيره .
وقد قال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة : (( ليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك شئ ، وإذا كان فيه حديث منكر بيبنت أنه منكر )) .
ومراده أن لم يخرج لتروك الحديث عنده ، على ما ظهر له ، أو لمتروك متفق على تركه ، فإنه قد خرج لمن [ قد ] قيل : إنه متروك ، ومن [ قد ] قيل : إنه متهم بالكذب ، وقد كان أحمد ابن صالح المصري وغيره ، لا يتركون إلا حديث من اجتمع على ترك حيدثه ، وحكي مثله عن النسائي .
والترمذي رحمه الله يخرج حديث الثقة الضابط ، ومن يهم قليلاً ، ومن يهم كثيراً ، ومن يغلب عليه الوهم يخرج حديثه نادراً ، ويبين ذلك ولا يسكت عنه .
وقد خرج حديث كثير بن عبد الله المزني ولم يجمع على ترك حديثه بل قد قواه قوم ، وقدم بعضهم حديثه على مرسل ابن المسيب ، وقد ذكرنا ذلك في مواضع .
وقد حكى الترمذي في العلل عن البخاري : أنه قال في حديثه في تكبير العيدين : (( هو أصح حديث في هذا الباب ، قال : وأنا أذهب إليه )) .
وأبو داود : قريب من الترمذي في هذا بل هو أشد انتقاداً للرجال منه .
وأما النسائي : فشرطه أشد من ذلك ، ولا يكاد يخرج لمن يغلب عليه الوهم ، ولا لمن فحش خطؤه وكثر .
وأما مسلم : فلا يخرج إلا حديث الثقة الضابط ، ومن في حفظه بعض الشئ وتكلم فيه لحفظه ، يكنه يتحرى في التخريج عنه ولا يخرج عنه إلا ما لا يقال : إنه مما وهم فيه .
وأما البخاري : فشرطه أشد من ذلك ، وهو أنه لا يخرج إلا للثقة الضابط ولمن ندر وهمه ، وإن كان قد اعترض عليه في بعض من خرج عنه .

* فائدة هامة في أمثلة لطبقات الرواة عن الحفاظ *

ونذكر لذلك مثالاً ، وهو أن :
أصحاب الزهري خمس طبقات :
الطبقة الأولى : جمعت الحفظ والاتقان وطول الصحبة للزهري ، والعلم بحديثه والضبط له ، كمالك ، وابن عيينة ، وعبيد الله بن عمر ، ومعمر ، ويونس ، وعقيل ، وشعيب ، وغيرهم ، وهؤلاء متفق على تخريج حديثهم عن الزهري .
الطبقة الثانية : أهل حفظ وإتقان ، لكن لم تطل صحبتهم للزهري وإنما صحبوه مدة يسيرة ولم يمارسوا حديثه ، وهم في إتقانه دون الطبقة الأولى ، كالأوزاعي ، والليث ، وعبد الرحمن بن مسافر ، والنعمان بن راشد ، ونحوهم ، وهؤلاء يخرج لهم مسلم عن الزهري .
الطبقة الثالثة : قوم لازموا الزهري وصحيوه ورووا عنه ، ولكن تكلم في حفظهم ، كسفيان بن حسين ، ومحمد بن إسحاق ، وصالح بن أبي الأخضر ، وزمعة بن صالح ، ونحوهم ، وهؤلاء يخرج لهم أبو داود والترمذي والنسائي ، وقد يخرج مسلم لبعضهم متابعة .
الطبقة الرابعة : قوم رووا عن الزهري من غير ملازمة ولا طول صحبة ، ومع ذلك تكلم فيهم ، مثا إسحاق بن يحيى الكلبي ، ومعاوية بن يحيى الصدفي ، وإسحاق بن أبي فروة ، وإبراهيم بن يزيد المكي ، والمثنى بن الصباح ، ونحوهم ، وهؤلاء قد يخرج الترمذي لبعضهم .
الطبقة الخامسة : قوم من المتروكين والمجهولين كالحكم الأيلي ، وعبد القدوس بن حبيب ، ومحمد بن سعيد المصلوب ، وبحر السقاء ، ونحوهم ، فلم يخرج لهم الترمذي ، ولا أبو داود ، ولا النسائي . ويخرج لبعضهم ابن ماجه ، ومن هنا نزلت درجة كتابة عن بقية الكتب ، ولم يعده من الكتب المعتبرة سوى طائفة من المتأخرين .
أصحاب نافع : قسمهم ابن المديني تسع طبقات :
الطبقة الأولى : أيوب ، وعبيد الله بن عمر ، ومالك ، وعمر ابن نافع ، قال : (( فهؤلاء أثبت أصحابه ، وأثبتهم عندي أيوب )) . قال : وسمعت يحيى يقول : (( ليس ابن جريج بدونهم فيما سمع من نافع )) .
الطبقة الثانية : عبد الله بن عون ، ويحيى الأنصاري ، وابن جريج .
الطبقة الثالثة : أيوب بن موسى ، وإسماعيل بن أمية ، وسليمان ابن موسى ، وسعد بن إبراهيم .
الطبقة الرابعة : موسى بن عقبة ، ومحمد بن إسحاق ، وداود بن الحصين .
الطبقة الخامسة : محمد بن عجلان ، والضحاك بن عثمان ، وأسامه ابن زيد الليثي ، وكالك بن مغول .
الطبقة السادسة : ليث بن سعد ، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، وسليمان بن مساحق ، وابن عنج المصري .
الطبقة السابعة : عبد الرحمن السراج ، وسعيد بن عبد الله ابن حرب ، وسلمة بن علقمة ، وعلي بن الحكم ، والوليد بن أبي هشام .
الطبقة الثامنة : أبو بكر بن نافع ، وخليفة بن غلاب ، ويونس بن يزيد ، وجويرية بن أسماء ، وعبد العزيز بن أبي رواد ، ومحمد بن ثابت العبدي ، وأبو علقمة الفروي ، وعطاف ابن خالد ، وعبد الله بن عمر ، وحجاج بن أرطأة ، وأشعث بن سوار ، وثور بن يزيد .
وطبقة تاسعة لا يكتب عنهم : عبد الله بن نافع ، وأبو أمية اين يعلى ، وعثمان البري ، وعمر بن قيس سندل . انتهى .
وقد خولف في بعض هذا الترتيب ، فمن ذلك تقديم سليمان بن موسى بن عقبة ، والليث والضحاك بن عثمان ومالك بن مغول وجويرية ، ويونس .
وجديث جويرية والليث بن سعد عن نافع مخرج في الصحيحين . وسليمان بن موسى قد تكلم فيه غير واحد ولم يخرجا له شيئاً .
وقد قسم النسائي أصحاب نافع تسع طبقات أيضاً ، وخالف ابن المديني في بعض ما ذكره ، ووافقه في بعضه .
فوافقه في ذكر الطبقة الأولى .
وزاد في الطبقة الثانية : صالح بن كيسان .
وزاد في الثالثة : موسى بن عقبة ، وكثير من فرقد ، وأسقط منها سعد بن إبراهيم [ وسليمان بن موسى ] .
وذكر : الطبقة الرابعة : الليث بن سعد ، وجويرية بن أسماء بن أسماء ، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، ويونس بن يزيد ، لم يذكرهم غيرهم .
وزاد في الخامسة : ابن أبي ذئب ، وحنظلة بن أبي سفيان ، وابن عنج ، وأسقط ذكر أسامه وابن مغول .
وذكر الطبقة السادسة : سليمان بن موسى ، وبُرد بن سنان ، وهشام بن الغاز ، وابن أبي روّاد .
وزاد في السابعة : عبيد الله بن الأخنس ، وأسقط منها سعيداً وعلي بن الحكم .
وقال : الطبقة الثامنة : عمر بن محمد بن زيد ، وأسامه بن زيد ، ومحمد بن إسحاق ، وصخر بن جويرية ، وهمام بن يحيى ، وهشام بن سعد .
قال : والتاسعة : الضعفاء : عبد الكريم أبو أمية ، وليث بن أبي سليم ، وحجاج بن أرطأة ، وأشعث بن سوار ، وعبد الله ابن عمر .
وذكر طبقة عاشرة : وقال : هم المتروك حديثهم : إسحاق بن أبي فروة ، وعبد الله بن نافع ، وعمر بن قيس ، ونجيح أبو معشر ، وعثمان البري ، وأبو أمية بن يعلى ، ومحمد بن عبد الرحمن بن مجبر ، وعبد العزيز بن عبيد الله .
أصحاب الأعمش : قال النسائي : هم سبع طبقات :
الأولى : يحيى القطان، والثوري ، وشعبة .
الثانية : زائدة ، وابن أبي زائدة ، وحفص بن غياث .
الثالثة : أبو معاوية ، وجرير بن عبد الحميد ، وأبو عاونة .
الرابعة : قطبة بن عبد العزيز ، ومفضل بن مهلهل ، وداود الطائي ، وفضيل بن عياض ، وابن المبارك
الخامسة : ابن إدريس ، وعيسى بن يونس ، ووكيع ، وحميد الرواسي ، وعبد الله بن داود ، والفضل بن موسى ، وزهير بن معاوية .
السادسة : أبو أسامه ، وابن نمير ، وعبد الواحد بن زياد .
السابعة : عبيدة بن حميد ، وعبدة بن سليمان .
*     *     *
* فصل في الحديث الغريب وأنواع الحديث *
من حيث تفرد الراوي فيه
وأما الحديث الغريب : فهو ضد المشهور .
وقد كان السلف يمدحون المشهور من الحديث ويذمون الغريب منه في الجملة :
ومنه قول ابن المبارك : (( العلم هو الذي يجنيك من ههنا ومن ههنا )) يعني المشهور . خرجه البيهقي من طريق الترمذي عن أحمد ابن عبدة عن أبي وهب عنه .
وخرج أيضاً من طريق الزهري عن علي بن حسين قال : (( ليس من العلم ما لا يعرف ، إنما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن )) .
وبإسناده عن مالك قال : (( شر العلم الغريب ، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس )) .
وروى محمد بن جابر عن الأعمش عن إبراهيم قال : (( كانوا يكرهون غريب الحديث ، وغريب الكلام )) .
وعن أبي يوسف قال : (( من طلب غرائب الحديث كُذب )) .
وقال أبو نعيم : (( كان عندنا رجل يصلي كل يوم خمسمائى ركعة ، سقط حديثه من الغرائب )) .
وقال عمرو بن خالد سمعت زهير بن معاوية يقول لعيسى ابن يونس : (( ينبغي للرجل أن يتوقى رواية غريب الحديث فإني أعرف رجلاً كان يصلي في اليوم نتي ركعة ما أفسده عن الناس إلا رواية غريب الحديث )) .
وذكر مسلم في مقدمة كتابه من طريق حماد بن زيد أن أيوب قال لرجل : (( لزمت عمراً ؟ قا ل: نعم ، إنه يجيئنا بأشياء غرائب !! قال : يقول له أيوب : إنما نفر أن نفرق من تلك الغرائب )) .
وقال لرجل لخالد بن الحارث : (( أخرج لي حديث الأشعث لعلي أجد فيه شيئاً غريباً )) . فقال : (( لو كان فيه شئ غريب لمحوته )) .
ونقل علي بن عثمان النفيلي عن أحمد قال : (( شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها )) .
وقال المروذي سمعت أحمد يقول : (( تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب ، ما أقل الفقه فيهم ؟! ))
ونقل محمد بن سهل بن عسكر عن أحمد قال : (( إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون : هذا الحديث غريب أو فائدة ، فاعلم أنه خطأ أو دخل حديث في حديث ، أو خطأ من المحدث ، أو ليس له إسناد ، وإن كان قد روى شعبة ، وسفيان . وإذا سمعتم يقولون : لا شئ فاعلم أنه حديث صحيح )) .
وقال أحمد بن يحيى سمعت أحمد غير مرة يقول : (( لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء )) .
قال أبو بكر الخطيب : (( أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب عليهم كتب الغريب دون المشهور ، وسماع المنكر دون المعروف ، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من رواية المجروحين والضعفاء ، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتباً ، والثابت مصدوفاً عنه مطرحاً ، وذلك لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم ، ونقصان علمهم بالتمييز ، وزهدهم في تعلمه ، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة المحدثين ، والأعلام من أٍلافنا الماضين )) .
وهذا الذي ذكره الخطيب حق ،ونجد كثيراً ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح كالكتب والسنة ونحوها ، ويعتني بالأجزاء الغريبة وبمثل مسند البزار ، ومعاجم الطبراني ، أو أفراد الدار قطني ، وهي مجمع الغرائب والمناكير .
ومن جملة الغرائب المنكرة الأحاديث الشاذة المطرحة
وهي نوعان :
ما هو شاذ الإسناد : وسيذكر الترمذي فيما بعد بعض أمثلته .
وما هو شاذ المتن : كالأحاديث التي صحت الأحاديث بخلافها ، أو أجمعت أئمة العلماء على القول بغيرها .
وهذا كما قاله أحمد – في حديث أسماء بنت عميس : (( تسلبي ثلاثاً ثم اصنعي ما بدا لك )) - : (( إنه من الشاذ المطرح )) . مع أنه قد قال به شذوذ من العلماء : إن المتوفى عنها زوجها لا إحداد عليها بالكلية ، كما سبق ذكره في موضعه .
وكذلك حديث طاووس عن ابن عباس في الطلاث الثلاث ، وقد تقدم في كتاب الطلاق كلام أحمد وغيره من الأئمة فيه وأنه شاذ مطرّح .
قال إبراهيم بن أبي عبلة : (( من حمل شاذ العلماء حمل شراًَ كثيراً )) . وقال معاوية بن قرة : (( إياك والشاذ من العلم )) .
وقال شعبة : (( لا يجينك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ )) .
قال صالح بن محمد الحافظ : (( الشاذ الحديث المنكر الذي لا يُعرف )) . وقد تقدم قول ابن مهدي : (( لا يكون إماماً في العلم من يحدث بالشاذ من العلم )) .
وقد اعتُرض على الترمذي رحمه الله :
بأنه في غالب الأبواب يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالباً ؟ وليس ذلك بعيب ، فإنه رحمه الله يبين ما فيها من العلل ، ثم يبين الصحيح من الإسناد ، وكان قصده رحمه الله ذكر العلل ، ولهذا تجد النسائي إذا استوعب طرق الحديث بدأ بما غلط ، ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له .
* خطة أبي داود في سننه : *
وأما أبو داود رحمه الله فكانت عنايته بالمتون أكثر :
ولهذا يذكر الطرق واختلاف ألفاظها ، والزيادات المذكورة في بعضها دون بعض ، فكانت بفقه الحديث أكثر من عنايته بالأسانيد ، فلهذا يبدأ بالصحيح من الأسانيد ، وربما لم يذكر الإسناد المعلل بالكلية .
ولهذا قال في رسالته إلى أهل مكة : (( سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب السنن أهي أصح ما عرفت في الباب ؟
فاعلموا أنه كذلك ، إلا أن يكون قد روي منوجهين صحيحين ، وأحدهما أقوى إسناداً ، والآخر صاحبه أقدم في الحفظ ، فربما كتبت ذلك ، ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث ، ولم أكتب في البا إلا حديثاً أو حديثين ، وإن كان في الباب أحاديث صحاح ، فإنه يكثر )) .
(( وإذا اعدت الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة فإنما هو من زيادة كلام فيه ، وربما فيه كلمة زائدة على الأحاديث ، وربما اختصرت الحديث الطويل ، لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعض من سمعه ، ولا يفهم موضع الفقه منه ، فاختصرته لذلك )) .
إلى أن قال : (( وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته ومنه مالا يصح مسنداً ، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح ، وبعضها أصح من بعض )) .
إلى أن قال : (( والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير ، وهو عند كل من كتب شيئاً من الأحاديث ، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس ، والفخر بها أنه مشاهير ، فإنه لا يحتج بحديث غريب ، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم )) .
(( ولو احتج بحديث غريب وجدت من يطعن فيه ، ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان غريباً شاذاً .
(( فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح فليس يقدر أن يرده علينا أحد )) .
وقال إبراهيم النخعي : (( كانوا يكرهون الغريب من الحديث )) .
وقال يزيد بن أبي حبيب : إذا سمعت الحديث فانشده ، كما تنشد الضالة ، فإن عرف وإلا فدعه )) . وذكر بقية الرسالة .
وخرج البيهقي بإسناده عن ابن وهب قال : (( لولا مالك بن أنس والليث بن سعد لهلكت ، كنت أظن أن كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعمل له )) .
وقال ابن أبي خيثمة ثنا ابن الأصبهاني ثنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن إبراهيم قا ل: (( إني لأسمع الحديث فآخذ منه ما يؤخذ به ، وأده سائره )) .

* الغريب سنداً ومتناً عند الترمذي : *
ثم لنرجع إلى ما ذكره الترمذي رحمه الله فنقول :
ذكر الترمذي رحمه الله : (( إن الغريب عند أهل الحديث يطلق بمعان : أحدها : أن يكون الحديث لا يروى إلا من وجه واحد )) .
ثم مثله بمثالين ، وهما في الحقيقة نوعان :
أحدهما : أن يكون ذلك الإسناد لا يروى به إلا ذلك الحديث أيضاً .
وهذا مثل حديث حماد بن سلمة عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الذكاة .
فهذا حديث غريب ، لا يُعرف إلا من حديث حماد بن سلمة عن أبي العشراء ثم اشتهر عن حماد ، ورواه عن خلق ، فهو في أصل إسناده غريب ، ثم صار مشهوراً عن حماد .
قال الترمذي : (( ولا يُعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث )) .
وقد خرّج الترمذي في كتاب الصيد والذبائح هذا الحديث وقال : (( غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ، ولا يعرف لأبي العشراء عن أبيه غيره )) .
ولم يقل : أنه لما ذكر ههنا أن شرطه في الحسن أن يروى نحوه من غير وجه ، وهذا ليس كذلك ، فإنه لم يرو في الذكاة في غير الخلق واللبة إلا في حال الضرورة غيره .
وحكى أيضاً في كتاب العلل عن البخاري أنه قال : (( لا نعرف لأبي العشراء شيئاً غير هذا )) .
وقد ذكرنا هناك أن بعضهم ذكر لحماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه نحو عشرة أحاديث ، لكن كل أسانيدها إلى حماد ضعيفة لا يكاد يصح منها شئ عنه ، ووهن أحمد حديث أبي العشراء في الذكاة أيضاً .
النوع الثاني : أن يكون الإسناد مشهوراً يروى به أحاديث كثيرة ، لكن هذا المتن لم تصح روايته إلا بهذا الإسناد .
ومثله الترمذي بحديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في النهي عن بيع الولاء وهبته ، فإنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا من هذا الوجه ، ومن رواه من غيره فقد وهم وغلط .
وقد خرجه الترمذي في كتاب البيوع . وسبق الكلام عليه هناك مستوفى ، وهو معدود من غرائب الصحيح ، فإن الشيخين خرجاه ، ومع هذا فتكلم الإمام أحمد ، وقال : (( لم يتابع عبد الله بن دينار عليه )) ، وأشار إلى أن الصحيح ما روى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( الولاء لمن أعتق )) . لم يذكر النهي عن بيع الولاء وهبته .
قلت : وروى نافع عن ابن عمر من قوله النهي عن بيع الولاء وعن هبته ، غير مرفوع ، وهذا مما يعلل به حديث عبد الله ابن دينار . والله أعلم .
ومن غرائب الصحيح أيضاً حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( إنما الأعمال بالنيات .. )) الحديث . وقد خرجه الترمذي في الجهاد ، وسبق الكلام عليه هناك مستوفى ، فإنه لم يصح إ من حديث يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاس عن عمر .
ومنها [ أيضاً ] حديث أنس (( دخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مكة وعلى رأسه المغفر ، فإنه لم يصح إلا من حديث مالك عن ابن شهاب عن أنس ، وقد سبق ذكره في الجهاد أيضاً ، وأمثلة ذلك كثيرة .
* زيادات الثقات وتحقيق حكمها *
قال أبو عيسى رحمه الله : (( ورب حديث إنما استغرب لزيادة تكون في الحديث ،وإنما يصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه .
مثل ما روى مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال : (( فرض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم زكاة الفطر من رمضان على كل حر أو عبد أذكر أو أنثى من المسلمين صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير )) .
فزاد مالك في هذا الحديث (( من المسلمين )) .
وروى أيوب السختياني ، وعبيد الله بن عمر ، ولم يذكر فيه (( من المسلمين )) .
وقد روى بعضهم عن نافع مثل رواية مالك ممن لا يعتمد على حفظه .
وقد أخذ غير واحد من الأئمة بحديث مالك ، واحتجوا به ، منهم الشافعي وأحمد بن حنبل قالا : إذا كان الرجل عبيد غير مسلمين لم يؤد زكاة الفطر [ عنهم ] ، واحتجا بحديث مالك . فإذا زاد حافظ ممن يعتمد على حفظه قبل ذلك عنه ) .
هذا أيضاً نوع من الغريب ، وهو أن يكون الحديث في نفسه مشهوراً لكن يزيد بعض الرواة في متنه زيادة تستغرب .
وقد ذكر الترمذي : أن الزيادة إن كانت من حافظ يعتمد على حفظه فإنها تقبل ، يعني وإن كان الذي زاد ثقة لا يعتمد على حفظه لا تقبل زيادته .
وهذا أيضاً ظاهر كلام الإمام أحمد ، قال في رواية صالح : (( قد أنكر على مالك هذا الحديث – يعني زيادته من المسلمين – ومالك إذا انفرد بحديث هو ثقة ، وما قال أحد ممن قال بالرأي أثبت منه )) . يعني في الحديث .
فذكر أحمد أن مالكاً يقبل تفرده ، وعلل بزيادته في الثبت على غيره ، وبأنه قد توبع على هذه الزيادة – وقد ذكرنا هذه الزيادة ومن تابع مالكاً عليها في كتاب الزكاة – ولا يخرج بالمتابعة عن أن يكون زيادة من بعض الرواة ، لأن عامة أصحاب نافع لم يذكروها .
و [قد] قال أحمد في رواية عنه : (( كنت أتهيب حديث مالك : (( من المسلمين )) . يعني حتى وجده من حديث العمرين . قيل له : (( أفمحفوظ هو عندك (( من المسلمين )) ؟ قال نعم )) .
وهذه الرواية تدل على توقفه في زيادة واحد من الثقات ، ولو كان مثل مالك حتى يتابع على تلك الزيادة ، وتدل على أن متابعة مثل العمري لمالك مما يقوي رواية مالك ويزيل عن حديثه الشذوذ والإنكار .
وسيأتي فيما بعد إن شاء الله عن يحيى القطان نحو ذلك أيضاً .
وكلام الترمذي هنا يدل على خلاف ذلك ، وأن العبرة برواية مالك ، وأنه لا عبرة بمن تابعه ممن لا يعتمد على حفظه .
وفي حديث ابن عمر في صدقة الفطر زيادات أخر لا تثبت ، منه ذكر القمح ، وكذلك في حديث أبي سعيد في صطقة الفطر زيادات وقد ذكرنا ذلك كله مستوفى في كتاب الزكاة .
وقال أحمد أيضاً – في حديث أبي فضيل عن الأعمش عن عمارة بن بن عمير عن أبي عطية عن عائشة في تلبية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذكر فيها : (( والملك لك ، لا شريك لك )) – قال أحمد : (( وهم ابن فضيل في هذه الزيادة ، ولا تعرف هذه عن عائشة ، إنما تعرف عن ابن عمر )) . وذكر أن أبا معاوية روى الحديث عن الأعمش بدونها ، وخرجه البخاري بدونها أيضاً من طريق الثوري عن الأعمش ، وقال : (( تابعه أبو معاوية )) .
قال الخلال : (( أبو عبد الله لا يعبأ بمن خالف أبا معاوية في الأعمش ، إلا أن يكون الثوري )) ، وذكر أن هذه الزيادة رواها ابن نمير وغيره أيضاً عن الأعمش .
وكذلك قال أحمد في رواية الميموني : (( حديث أبي هريرة في الاستسعاء يرويه ابن أبي عروبة ، وأما شعبة وهمام فلم يذكراه ، ولا أذهب إلى الاستسعاء )) .
فالذي يدل عليه كلاك الإمام أحمد في هذا الباب أن زيادة الثقة للفظه في حديث من بين الثقات إن لم يكن مبرزاً في الحفظ والتثبت على غيره ممن لم يذكر الزيادة ولم يتابع عليها فلا يقبل تفرده .
وإن كان ثقة مبرزاً في الحفظ على من لم يذكرها ففيه عنه روايتان : لأنه قال مرة في زيادة مالك (( من المسلمين )) : (( كنت أتهيبه حتى وجدته من حديث العمرين )) .
وقال – في حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر المرفوع : (( من حلف فقال : إن شاء الله فلا حنث عليه )) - : (( خالفه الناس : عبيد الله وغيره فوقفوه )) .
وأما أصحابنا الفقهاء فذكروا في كتب أصول الفقه في هذه المسألة روايتين عن أحمد : بالقبول مطلقاً ، وعدمه مطلقاً  ، ولم يذكروا نصاً له بالقبول مطلقاً ، مع أنهم رجحوا هذا القول ، ولم يذكروا به نصاً عن أحمد ، وإنما اعتمدوا على كلام له لا يدل على ذلك ، مثل قوله في فوات الحج : (( جاء فيه روايتان : إحداهما فيه زيادة دم . قال : والزائد أولى أن يؤخذ به )) .
وهذا ليس مما نحن فيه فإن مراده أن الصحابة روي عن بعضهم فيمن يفوته الحج أن عليه القضاء ، وعن بعضهم : أن عليه القضاء مع الدم ، فأخذ بقول من زاد الدم ، فإذا روي حديثان مستقلان في حادثة في أحدهما زيادة فإنها تقبل من الثقة ، كما لو انفرد الثقة بأصل الحديث .
وليس هذا من باب زيادة الثقة ، [ ولا سيما إذا كان الحديثان موقوفين عن صحابيين ] وإنما قد يكون أحياناً من باب المطلق والمقيد .
وأما مسألة زيادة الثقة التي نتكلم فيها هاهنا فصورتها أن يروي جماعة حديثاً واحداً بإسناد واحد ومتن واحد ، فيزيد بعض الرواة فيه زيادة لم يذكرها بقية الرواة .
ومن الأصحاب من قال في هذه المسألة : (( إن تعدد المجلس الذي نقل فيه الحديث قبلت الزيادة ، وإن كان المجلس واحداً وكان الذي ترك الزيادة جماعة لا يجوز عليهم الوهم لم تقبل الزيادة ، وإن كان ناقل الزيادة جماعة كثيرة قبلت ، وإن كان رواي الزيادة واحداً والنقصان واحداً قد أشهرهما [ وأوثقهما ] في الحفظ والضبط )) .
قالوا : وإن خالفت الزيادة ظاهر المزيد عليه لم تقبل )) . وحملوا كلام أحمد في حديث السعاية على ذلك ، وليس في كلام أحمد تعرض لشئ من هذا التفصيل ، وإنما يدل كلامه [ على ] ما ذكرناه أولاً
وأما الفرق بين أن يكون المجلس متحداً أو متعدداً فإنه مأخوذ مما ذكره بعضهم في حديث أبي موسى في النكاح بلا ولي ، فإن شعبة وسفيان أرسلاه عن أبي إسحاق عن أبي بردة ، وإسرائيل وصله ، ويقال : إن سماع شعبة وسفيان كان واحداً ، والذين وصلوه جماعة ، فالظاهر أنهم سمعوه في مجالس متعددة .
وقد أشار الترمذي إلى هذا في كتاب النكاح ، كما تقدم .
وحكى أصحابنا الفقهاء عن أكثر الفقهاء والمتكلمين قبول الزيادة إذا كانت من ثقة ولم تخالف المزيد ، وهو قول الشافعي ، وعن أبي حنيفة أنها لا تقبل ، وعن أصحاب مالك في ذلك وجهين .
ولا فرق في الزيادة بين الإسناد والمتن كما ذكرنا في حديث النكاح بلا ولي .
* الزيادة في المسند والمزيد في متصل الأسانيد *
وقد تكرر في هذا الكتاب ذكر الاختلاف في الوصل والإرسال ، والوقف والرفع ، وكلام أحمد وغيره من الحفاظ يدور على اعتبار قول الأوثق في ذلك والأحفظ أيضاً .
وقد قال أحمد في حديث أسنده حماد بن سلمة : (( أي شئ ينفع وغيره يرسله )) .
وذكر الحاكم أن أئمة الحديث على أن القول قول الأكثرين الذين أرسلوا الحديث ، وهذا يخالف تصرفه في المستدرك .
وقد صنف في ذلك الحافظ أبو بكر الخطيب مصنفاً حسناً سماه (( تمييز المزيد في متصل الأسانيد )) ، وقسمه قسمين :
أحدهما : ما حكم فيه بصحة ذكر الزيادة في الإسناد وتركها .
والثاني : ما حكم فيه برد الزيادة وعدم قبولها .
ثم إن الخطيب تناقض ، فذكر في كتاب الكفاية للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله ، كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ ، إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين .
ثم إنه اختار الزيادة من الثقة تقبل مطلقاً كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء ، وهذا يخالف تصرفه في كتاب تمييز المزيد ، وقد عاب تصرفه في كتاب تمييز المزيد بعض محدثي الفقهاء ، وطمع فيه لموافقته لهم في كتاب الكفاية .
وذكر في الكفاية حكاية عن البخاري : أنه سئل عن حديث أبي إسحاق في النكاح بلا ولي ؟ قال : الزيادة من الثقة مقبولة ، وإسرائيل ثقة .
وهذه الحكاية – إن صحت – فإنما مراده الزيادة في هذا الحديث ، وإلا فمن تأمل كتاب تاريخ البخاري تبين له قطعاً أنه لم يكن يرى أن زيادة كل ثقة في الإسناد مقبولة .
وهكذا الدار قطني ، يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة ثم يرد في أكثر المواضع زيادات كثيرة من الثقات ، ويرجح الإرسال على الإسناد ، فدل على أن مرادهم زيادة الثقة في مثل تلك المواضع الخاصة : وهي إذا كان الثقةة مبرزاً في الحفظ .
وقال الدار قطني في حديث زاد في إسناده رجلان ثقتان رجلاً ، وخالفهما الثوري فلم يذكره قال : (( لولا أن الثوري خالف لكان القول قول من زاد فيه ، لأن زيادة الثقة مقبولة )) . وهذا تصريح بأنه إنما يقبل زيادة الثقة إذا لم يخالفه من هو أحفظ منه .
وأما الزيادة في المتون وألفاظ الحديث :
بأبو داود رحمه الله في كتاب السنن أكثر الناس اعتناء بذلك ، وهو مما يعتني به محدثوا الفقهاء .
قال الحاكم : (( هذا مما يعز وجوده ، ويقل في أهل الصنعة من يحفظه ، وقد كان أبو بكر بن زياد النيسابوري الفقيه ببغداد يذكر بذلك ، وأبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني بخراسان ، وبعدهما شيخنا أبو الوليد يعني حسان بن محمد القرشي )) .
وذكر الحاكم لذلك أمثلة :
منها : حديث [ الوليد بن العيزار عن أبي عمرو الشيباني عن ] ابن مسعود : سألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أي أفضل ؟ قال : (( الصلاة لأول وقتها )) . وقال : (( هذه الزيادة لم يذكرها غير بندار والحسن بن مكرم ، وهما ثقتان عن عثمان بن عمر عن مالك بن مغول عن الوليد عن أبي عمرو الشيباني .
وقال الدار قطني : (( ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن زياد كان يعرف زيادات الألفاظ في المتون )) .
قال : (( وكنا في مجلس فيه أبو طال والجعابي وغيرهما فجاء فقيه فسأل : من روى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( وجعل تربتها طهوراً )) ؟ فلم يجيبوه ، ثم قاموا وسألوا أبا بكر بن زياد ؟ فقال : نعن ثنا فلان ، وسرد الحديث .
والحديث خرجه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة ، وخرجه ابن خزيمة في صحيحه ، ولفظه : (( وجعل ترابها لنا طهوراً )) .
وقد تقدم الحديث في كتاب الصلاة في باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد .
وهذا أيضاً ليس مما نحن فيه لأن حديث حذيفة لم يرو بإسقاط هذه اللفظة وإثباتها ، وإنما وردت هذه اللفظة فيه ، وأكثر الأحاديث فيها : (( وجعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً )) .
وليس هذا من باب المطلق والمقيد كما ظنه بعضهم ، وإنما هو من باب تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر ، ولا يقتضي ذلك التخصيص إلا عند من يرى التخصيص بالمفهوم ، ويرى أن للقب مفهوماً معتبراً .
ومن الزيادات الغريبة في المتون :
زيادة من زاد في حديث صفوان بن عسال في المسح على الخفين (( ثم يحدث بعد ذلك وضوءا )) .
وزيادة من زاد في حديث : (( أذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )) ، (( قالوا يا رسول الله ولا ركعتي الفجر ؟ قال : ولا ركعتي الفجر )) .
وقد ذكرنا الحديثين في موضعهما من الكتاب ، وهما زيادتان ضعيفتان . وقد ذكر مسلم في كتاب التمييز حديث أيمن بن نابل عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول : في التشهد : (( باسم الله وبالله ، والتحيات لله .. الحديث )) ، وذكر أن زيادة التسمية في التشهد تفرد بها أيمن بن نابل ، وزاد في آخر التشهد : (( وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار )) . وذكر أن الحفاظ رووه عن أبي الزبير عن طاوس عن ابن عباس بدون هاتين الزيادتين .
قال : (( والزيادة في الأخبار لا تلزن إلا عن الحفاظ الذين لم يكثر عليهم الوهم في حفظهم .
وذكر مسلم أيضاً في هذا الكتاب رواية من روى من الكوفيين ممن روى حديث ابن عمر في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن شرائع الإسلام ، فأسقطوا من الإسناد عمر ، وزادوافي المتن ذكر الشرائع .
قال مسلم في هذه الزيادة : (( هي غير مقبولة لمخالفة من هو أحفظ منهم من الكوفيين سفيان ، ولمخالفة أهل البصرة لهم قاطبة ، فلم يذكروا هذه الزيادة ، وإنما ذكرها طائفة من المرجنة ليشيدوا بها مذهبهم )) .
وأما زيادة عمر في الإسناد فقال : (( أهل البصرة أثبت ، وهم له أحفظ من أهل الكوفة ، إذ هم الزائدون في الإسناد عمر ، ولم يحفظه الكوفيون ، والحديث للزائد الحافظ ، لأنه في معنى الشاهد الذي حفظ شهادته ما لم يحفظه صاحبه )) .
وهذا القياس الذي ذكره ليس بجيد ، لأنه لو كان كذلك لقبلت زيادة كل ثقة زاد في روايته ، كما يقبل ذلك في الشهادة ، وليس ذلك قول مسلم ولا قول أئمة الحفاظ ، والله أعلم .
وإنما قبل زيادة أهل البصرة في الإسناد لعمر لأنهم أحفظ وأوثق ممن تركه من الكوفيين ،وفي كلامه ما يدل على أن صاحب الهوى إذا روى ما يعضد هواه فإنه لا يقبل منه ، لا سيما إذا تفرد بذلك .
* الغريب إسناداً لا متنا عند الترمذي *   
قال أبو عيسى رحمه الله :
( ورب حديث يروى من أوجه كثيرة ، وإنما يستغرب لحال الإسناد :
حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي وأبو السائب والحسين الأسود ، قالوا : نا أبو أسامه عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي برده عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( الكافر يأكل في سبعة أمعاء ، والمؤمن يأكل في معي واحد )) .
هذا حديث غريب من هذا الوجه من قبل إسناده وقد روي من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإنما يستغرب من حديث أبي موسى .
وسألت محمود بن غيلان عن هذا الحديث فقال : هذا حديث أبي كريب عن أبي أسامة .
وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال : (( هذا حديث أبي كريب عن أبي أسامة )) لم يعرف إلا من حديث أبي كريب عن أبي أسامة .
فقلت : (( حدثنا غير واحد عن أبي أسامة بهذا )) . فجعل يتعجب ويقول : (( ما علمت أن أحداً حدث بهذا غير أبي كريب )) . قال محمد : (( وكنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا الحديث عن أبي أسامة في المذاكرة )) .
حدثنا عبد الله بن أبي زياد وغير واحد قالوا نا شبابة بن سوار نا شعبة عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر : (( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الدباء والمزفت )) .
هذا حديث غريب من قبل إسناده لا نعلم أحداً حدث به عن شعبة غير شبابة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أوجه كثيرة أنه نهى أن ينتبذ في الدباء والمزفت )) .
وحديث شبابة إنما يستغرب لأنه تفرد به عن شعبة ، وقد روى شعبة وسفيان والثوري بهذا الإسناد عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : (( الحج عرفة )) . فهذا الحديث المعروف عند أهل الحديث بهذا الإسناد ) .
هذا نوع آخر من الغريب :
وهو أن يكون الحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من طرق معروفة ، ويروي عن بعض الصحابة من وجه يستغرب عنه ، بحيث لا يعرف حديثه إلا من مالك إلا من ذلك الوجه .
وقد ذكر الترمذي لهذا النوع مثالين :
أحدهما : حديث أبي كريب عن أبي أسامة عن بريد بن عبد الله ابن أبي بردة عن جده عن أبيه أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( المؤمن يأكل في معي واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء )) .
فهذا المتن معروف عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من وجوه متعدده ، وقد خرجاه  في الصحيحين من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وأما حديث أبي موسى هذا فخرجه مسلم عن كريب ، وقد استغربه غير واحد من هذا الوجه ، وذكروا أن أبا كريب تفرد به ، منهم البخاري ، وأبو زرعة ، وذكر لأبي زرعة من رواه عن أبي أسامة غير أبي كريب ، ؟ فكأنه أشار إلى أنهم أخذوه منه .
وحسين بن الأسود كان يتهم بسرقة الحديث ، وأبو هشام فيه ضعف أيضاً ، وقد ذكرنا كلام أبي زرعة في هذا كتاب الأطعمة وإنكاره على أبي السائب وأبي هشام روايته .
وظاهر كلام أحمد يدل على استنكار هذا الحديث أيضاً .
قال أبو داود : (( سمعت أحمد – وذكر له حديث بريد هذا – فقال أحمد : يطلبون حديثاً من ثلاثين وجهاً : أحاديث ضعيفة . وجعل ينكر طلب الطرق نحو هذا ، قال : شئ لا ينتفعون به . أو نحو هذا الكلام )) .
وإنما كره أحمد تطلب الطرق الغريبة الشاذة المنكرة ، وأما الطرق الصحيحة المحفوظة فإنه كان يحث على طلبها كما ذكرناه عنه في أول الكتاب .
وما حكاه الترمذي عن البخاري هاهنا أنه قال : (( كنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا عن أبي أسامة في المذاكرة )) فهو تعليل للحديث ، فإن أبا أسامة لم يرو هذا الحديث عنه أحد من الثقات غير أبي كريب ، والمذاكرة يحصل فيها تسامح ،بخلاف حال السماع أو الإملاء ، ولذلك لم يروه عن بريد غير أسامة .
المثال الثاني : حديث شبابة عن شعبة بن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (( أنه نهى عن الدباء والمزفت )) فإن نهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الانتباذ في الدباء والمزفت صحيج ثابت عنه ، رواه عنه جماعة كثيرون من أصحابه .
وأما رواية عبد الرحمن بن يعمر عنه فغريبة جداً ، ولا يعرف إلا بهذا الإناد ، تفرد بها شبابة عن شعبة عن بكير بن عطاء عنه .
وعند شعبة بهذا الإسناد عن عبد الرحمن بن يعمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : (( الحج عرفة )) في حديث ذكره ، فهذا المتن هو الذي يعرف بهذا الإسناد .
وأما حديث النهي عن الدباء والمزفت فهو بهذا الإسناد غريب جداً ، وقد أنكره على شبابة طوائف من الأئمة ، منهم الإمام أحمد ، والبخاري ، وأبو حاتم ، وابن عدي .
وأما ابن المديني فإنه سئل عنه فقال : (( لا ينكر لمن سمع من شعبة – يعني حديثاً كثيراً – أن ينفرد بحديث غريب )) .
وقال أحمد : (( إنما روى شعبة بهذا الإسناد حديث الحج )) يشير إلى أنه لا يعرف بهذا الإسناد غير حديث الحج .
وقد سبق ذكر هذا الحديث مع الكلام عليه في كتاب الأشربة ، والله أعلم .
*     *     *
قال أبو عيسى رحمه الله تعالى :
( حدثنا محمد بن بشار ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن يحيى ابن أبي كثير قال حدثني أبو مزاحم أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط ، ومن تبعها حتى يُقضى قضاؤها فله قراطان )) .
قالوا : (( يا رسول الله ، وما القراطان ؟ )) قال : (( أصغرهما مثل أحد ! )) .
حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أنا مروان ابن محمد عن معاوية بن سلاّم قال حدثني يحيى بن أبي كثير عن أبي مزاحم سمع أبا هريرة يقول : عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( من تبع جنازة فله قيراط )) فذكر بمعناه .
قال عبد الله بن عبد الرحمن : وأنا مروان عن معاوية بن سلاّم قال قال يحيى ، وحدثني أبو سعيد مولى المهري عن حمزة بن سفينة عن السائب سمع عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نحوه .
قلت لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن : (( ما الذي استغربوا من حديثك بالعراق ؟ )) فقال : (( حديث السائب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) فذكر الحديث .
وسمعت محمد بن إسماعيل يحدث بهذاالحديث عن عبد الله بن عبد الرحمن .
قال : وهذا حديث قد روي من غير وجه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإنما يستغرب هذا الحديث لحال إسناده ، لرواية السائب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) .
هذا نوع آخر من الغريب :
وهو أن يكون الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معروفاً من رواية صحابي عنه من طريق أو من طرق ، ثم يروى عن ذلك الصحابي من وجه آخر يستغرب من ذلك الوجه خاصة عنه . مثل ما ذكره الترمذي هاهنا من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سعيد مولى المهري عن حمزة بن سفينة عن السائب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وهذا الحديث إنما يعرف من رواية عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي الحافظ الذي خرجه الترمذي هنا عنه ، وذكر أن البخاري كان يحدث به عنه . وقد ذكره البخاري في تاريخه عنه فقال : (( قال عبد الله أنا مروان بن معاوية )) فذكره .
وخرجه بقيّ بن مخلد عن عبد الله الدارمي أيضاً ، وذكر الترمذي عن الدارمي أن أهل العراق كانوا يستغربون من حديثه هذا الحديث .
وحمزة بن سفينة الذي يرويه عن السائب بن يزيد شيخ بصري ذكره ابن حبان في ثقاته .
وهذا الحديث مروي من وجوه متعددة عن عائشة أنه صدقت أبا هريرة بما حدث به عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من هذا الحديث ، وأما حديث السائب بن يزيد عنها فلا بعرف إلا من هذا الوجه .
ووما كا يستغرب من حديث الدارمي أيضاً بالعراق حديثه عن يحيى بن حسان عن سليمان بن بلال عن هشام عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( نعم الإدام الخل )) . وقد خرجه الترمذي في كتاب الأطعمة من كتابه هذا ، ومسلم في صحيحه كلاهما عن الدارمي به .
و [قد] سبق الكلام عليه في موضعه ، وذكرنا أن كثيراً من الحفاظ اسنتكروه على سليمان بن بلال ، منهم أحمد ، وأبو حاتم ، وأحمد بن صالح ، وغيرهم .
وكذلك قال جماعة منهم في حديث : (( بيت لا تمر فيه جياع أهله )) بهذا الإسناد ، ولكن هذا من نوع الغرب المذكور قبل هذا ، فإنه غريب من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، على أنه قد روي من وجه آخر عنها وهو ضعيف . والحديث معروف من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .



* الحديث المنكر وموازنته بالشاذ *
قال أبو عيسى رحمه الله :
( حدثنا أبو حفص عمرو بن علي ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا المغيرة بن أبي قرة السدوسي قال سمعت أنس بن مالك يقول : قال رجل : يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل ؟ قال : (( أعقلها وتوكل )) .
قال عمرو بن عيل قال يحيى بن سعد : (( وهذا عندي حديث منكر )) .
قال أبو عيسى : هذا غريب من هذا الوجه لا نعرفه من حديث أنس بن مالك إلا من هذا الوجه . وقد روي عن عمرو ابن أمية الضمري عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم محو هذا ) .
قال أبو عيسى رحمه الله :
( وزقد وضعنا هذا الكتاب على الاختصار ، لما رجونا فيه من المنفعة ، ونسأل الله عزوجل النفع بما فيه ، وأن لا يجعله وبالاً علينا ) .
آخر الكتاب والحمد لله وحده

حديث أنس هذا قد خرجه الترمذي فيما تقدم في أواخر كتاب الزهد ، وسبق هناك ذكره ، وذكر حديث عمرو بن أمية الضمري أيضاً ، وحديث أنس قد رواه غير واحد عن المغيرة بن أبي قروة عن أنس ، وقد تفرد بنه المغيرة عنه ، ولهذا غرّبه الترمذي .
وقد قال يحيى القطان : (( هو عندي منكر )) فهذا الحديث من الغرائب المنكرة .
ولم أقف لأحد من المتقدمين على حد المنكر من الحديث وتعريفه ، إلا على ما ذكره أبو بكر البرديجي الحافظ ، وكان من أعيان الحفاظ المبرزين في العلل : (( أن المنكر هو الذي يحدث به الرجل على الصحابة أو عن التابعين عن الصحابة لا يعرف ذلك الحديث ، وهو متن الحديث إلا من طريق الذي رواه فيكون منكراً )) .
ذكر هذا الكلام في سياق ما إذا انفرد شعبة ، أو سعيد بن أبي عروبة ، أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهذا كالتصريح بأنه كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة ، ولا يعرف المتن نت غير ذلك الطريق فهو منكر ، كما قاله الإمام أحمد في حديث عبدالله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في النهي ، عن بيع الولاء و(عن) هبته )) .
وكذا قال أحمد في حديث مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة (( أن الذين جمعوا الحج والعمرة طافوا حين قدموا لعمرتهم ، وطافوا لحجهم حين رجعوا من منى )) ، قال : (( لم يقل هذا أحد إلا مالك ، وقال : (( ما أظن مالكاً إلا غلط فيه ، ولم يجئ به أحد غيره )) ، وقال : (( لم يروه إلا مالك ، ومالك ثقة )) .
ولعل أحمد إنما استنكره لمخالفته الأحاديث في أن القارن يطوف طوافاً واحداً .
(ثم) قال البرديجي بعد ذلك : (( فأما أحاديث قتادة الذي يرويها الشيوخ مثل حماد بن سلمة ، وهمام ، وأبان ، والأوزاعي ، ينظر في الحديث ، فإن كان الحديث يحفظ من غير طريقهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أو عن أنس بن مالك من وجه آخر لم يدفع ، وإن كان لا يعرف عن أحد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا من طريق عن أنس إلا من رواية هذا الذي ذكرت لك ، كان منكراً )) .
وقال أيضاً : (( إذا روى الثقة من طريق صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حديثاً لا يصاب إلا عند الرجل الواحد – لم يضره أن لا يرويه غيره إذا كان كتن الحديث معروفاً ، ولا يكون منكراً ولا ممولاً )) .
وقال في حديث رواه عمرو بن عاصم عن همام عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( إني أصبت حداً فاقة على .. الحديث )) : (( هذا عندي حديث منكر ، وهو عندي وهم من عمرو بن عاصم )) .
ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال : (( هذا حديث باطل بهذا الإسناد )) .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من هذا الوجه ، وخرج مسلم معناه أيضاً من حديث أمامة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فهذا شاهد لحديث أنس .
ولعل أبا حاتم والبرديجي إنما أنكر الحديث لأنه عمرو بن عاصم ليس هو عندهما في محل من يحتمل تفرده بمثل هذا الإسناد ، والله أعلم .
وقال إسحاق بن هانئ : قال لي أبو عبد الله  [ يعني أحمد ] قال لي يحيى بن سعيد : لا أعلم عبيد الله يعني ابن عمر أخطأ إلا في حديث واحد لنافع ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ((لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام ..))الحديث ، قال أبو عبد الله :(( فأنكره يحيى بن سعيد عليه ! )) .
قال أبو عبد الله فقال لي يحيى بن سعيد : (( فوجدته قد حدث به العمري الصغير عن نافع عن ابن عمر مثله )) .
قال أبو عبد الله : : (( لم يسمعه إلا من عبيد الله ، فلما بلغه عن العمري صححه )) .
وهذا الكلام يدل على أن النكارة عند يحيى القطان لا تزول إلا بمعرفة الحديث من وجه آخر .
وكلام أحمد قريب من ذلك قال عبد الله : سألت أبي عن حسين بن علي الذي يروي حديث المواقيت ؟ فقال : (( هو أخو أبي جعفر محمد بن علي ، وحديثه الذي روى في المواقيت ليس بمنكر ، لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره )) .
وقال أحمد في بُريد بن عبد الله بن أبي بردة : (( يروي أحاديث مناكير ! )) .
وقال [ أحمد ] في محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي وهو المنفرد برواية حديث : (( الأعمال بالنيات )) : (( في حديثه شئ ، يروي أحاديث مناكير أو قال منكرة ؟ )) .
وقال في زيد بن أبي أنيسة : (( إن حديثه مقارب ، وإن فيها لبعض النكارة ، قال : وهو على ذلك حسن الحديث )) .
قال الأثرم قلت لأحمد : (( إن له أحاديث إن لم تكن مناكير فهي غرائب ! قال : نعم )) .
وهؤلاء الثلاثة متفق على الاحتجاج بحديثهم في الصحيح ، وقد الستنكر أحمد ما تفردوا به .
وكذلك قال عمرو بن الحارث : (( له مناكير )) ، وفي الحسين بن واقد ، وخالد بن مخلد ، وفي [في] جماعة خرج لهم في الصحيح بعض ما يتفردون به )) .
وأما تصرف الشيخين والأكثرين فيدل على خلاف هذا ، وأن ما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه – وليس له علة – فليس بمنكرة .
وقد قال مسلم في أول كتابه : (( حكم أهل العلم والذي تعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث ، أن يكون قد شارك الثقات من أهل الحفظ في بعض ما رووا ، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم ، فإذا واجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته )) .
(( فأما من نراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديث وحديث غيره ، أو لمثل هشام بن عروة ، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما   على اتفاق منهم في أكثره ، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما ، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح الذي عندهم ، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس ، والله أعلم .
[ فصرح بأن الثقة إذا أمعن في موافقة الثقات في حديثهم ، ثم تفرد عنهم بحديث قبل ما تفرد به ، وحكاه عن أهل العلم ] .
وقد ذكرنا فيما تقدم قول الشافعي في الشاذ ، وأنه قال : (( ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره ، إنما الشاذ أن يروي حديثاً يخالف الناس ، وكذا قال أبو بكر الأثرم .
وحكى أيو يعلى الخليلي هذا القول على الشافعي وجماعة من أهل الحجاز ، ثم قال : (( الذي عليه حفاظ الحديث : أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد بذلك شيخ ثقة أو غير ثقة ، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل ، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به )) .
وكذلك ذكر الحاكم : أن الشاذ هو الحديث الذي (( يتفرد به ثقة من الثقات وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة )) ، ولم يوقف له على علة .
ولكن كلام الخليل في تفرد الشيوخ ، والشيوخ في اصطلاح أهل ها العلم عبارة عمن دون الأئمة والحفاظ ، وقد يكون فيهم الثقة وغيره .
فأما ما أنفرد به الأئمة والحفاظ فقد سماه الخليلي فرداً ، وذكر أن أفراد الحفاظ المشهورين الثقات ، أو أفراد إمام من الحفاظ الأئمة صحيح متفق عليه ، ومثله بحديث مالك في المغفر ، [ فتلخص من هذا أن النكارة لا تزول عند يحيى القطان والإمام أحمد والبرديجي وغيرهم من المتقدمين إلا بالمتابعة وكذلك الشذوذ ، كما حكاه الحاكم .
وأما الشافعي وغيره فيرون أن ما تفرد به ثقة مقبول الرواية ولم يخالفه غيره فليس بشاذ ، وتصرف الشيخين يدل على مثل هذا المعنى .
وفرق الخليلي بين ما ينفرد به شيخ من الشيوخ الثقات ، وبين ما ينفرد به إمام أو حافظ . فما انفرد به إمام أو حافظ قبل واحتج به ، بخلاف ما تفرد به شيخ من الشيوخ . وحكى ذلك عن حفاظ الحديث والله أعلم ] .

*      *     *
وقد ذكر الترمذي رحمه الله : أنه إنما وضع كتابه هذا على الاختصار ، لما رجا فيه من المنفعة ، وهو تقريبه على طلبه العلم ، وكان قد وعد بكتاب أكبر منه يستوعب فيه الأحاديث والآثار ، ثم سأل الله عند فراغ كتابه – النفع بما فيه ، وأن لا يجعله وبالاً عليه برحمته .
وقد ظهرت آثار إجابة دعائه الأول ، وحصل النفع بهذا الكتاب نفعاً عاماً .
قال محمد بن طاهر المقدسي : سمعت أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري يقول :
(( كتاب أبي عيسى الترمذي عندي أفيد من كتاب البخاري ومسلم .
قلت : لِمَ ؟ !
قال : لأن كتاب البخاري ومسلم لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من يكون من أهل المعرفة التامة . وهذا كتاب قد شرح أحاديثه وبينهما ، فيصل إلى فائدته كل واحد من الناس ، من الفقهاء والمحدثين ، وغيرهم )) .


[ تَمَّ ـ بحمد الله تعالى ـ الجزء الأول ]


(1)  العناوين ليست من المؤلف

No comments:

Post a Comment

Setiap Mencopy artikel mohon meninggalkan pesan yang membagun